تمر 15 سنة على رحيل الأديب العالمي محمد ديب، وأحد أهم الأسماء الأدبية في تاريخ الأدب الجزائري، وهو الذي غادرنا وإلى الأبد في 2 أيار (مايو)، عام 2003، لكن المترجم والشاعر عبد السلام يخلف لم يترك هذه الذكرى تمر دون أن يأخذ الحضور بمكتبة المطالعة العمومية بقسنطينة إلى رحلة خاضها قبل 11 سنة بحثا عن محمد ديب.الجلسة التي بدأها عبد السلام من انتقال محمد ديب من الجزائر إلى فرنسا إلى فلندا ثم الولايات المتحدة الأمريكية، وإنتاجه كتبا تشبه تلك الرحلات، وكيف يتغدى من حركته على الجغرافيا، حيث كان يركز محمد ديب على أن السفر هو دائما نحو الآخر، ويجب أن لا ينتظر، ففي اعتقاده أن السفر نحو الآخر يفسح المجال للسفر نحو الذات في الداخل، فإذا كنت تبحث عن الآخر ـ حسب محمد ديب ـ فأنك في نفس الوقت تبحث عن نفسك.كما عرج على بداية الكتابة الواقعية في الخمسينيات مع الدار الكبيرة، الحريق والنول، أين كان يحكي عن الثورة والفقر المدقع وكيف يحكي عن الناس الذين يهجمون على المدينة هروبا من القرية، والصعوبات التي يعيشونها، لهذا قال محمد ديب أن كل الروايات هي رواية واحدة، حيث تتكرر الفكرة في رواية سطوح أرسول (1985)، وهي مدينة خيالية غير موجودة، وكأنه يجيب عن الروايات الثلاثة الأولى التي كتبها عن الجزائر، فرغم أن المكان خرافي لكنه حين يقف في الشاطئ ويشتم رائحة الصحراء والرمل والنخيل يتذكر بلاده.ثم بعد 1962 كانت مرحلة أخرى من الكتابة، التي لخصها عبد السلام يخلف في مقولة الروائي الراحل: "أنا كنت شاهدا على ما رأيت، دونت لكم كل الأشياء، هذا رأيي، هذه طريقتي في الدفاع عن قضاياكم، الآن أنصرف إلى شؤوني الخاصة" يأتي هذا خاصة بعدما تم نفيه إلى خارج الجزائر عام 1959، وهذا لا يعني أنه انصرف عن شؤون الجزائر والجزائريين، بل ظل يعالج القضايا الجزائرية لكن ليس بشيء مبتذل، فمحمد ديب تزوج من سيدة فرنسية عام 1951، غادر الجزائر عام 1959، وليكن في علم الجميع أنه مات بجواز سفر أخضر (جواز سفر جزائري)، مذكرا أن محمد ديب لما أتاه صاحب دار نشر فرنسية وطلب منه أن يحذف كلمة اسم محمد والاكتفاء بحرف "م" رفقة لقبه ديب بسبب الإسلاموفوبيا التي بدأت في الانتشار، رد عليه بكتاب كامل "من أين تأتي الأسماء" ويقول له أنه في الجزائر لا يقال لك ما اسمك؟ وإنا يقال "كيف سماك الله؟" فأنا لا أحذف اسما سماني به الله.وفي حديثه عن اللغة، يقول عندما نقرأ محمد ديب نجد اللغة التي يكتب بها، هي لغة معقدة وصعبة جدا، متحدثا عن الفرصة التي أتيحت له لترجمة كتابه سيموغ، وكيف تخوف من ترجمة هذا الكتاب ثم اضطراره لعدم ترجمة نص واحد كما تمت الإشارة إلى ذلك في مقدمة الكتاب، لأنه صعب الترجمة لأنه عبارة عن ألغاز وكلمات متقاطعة، فهو كان دائما حسب عبد السلام يخلف يحب أن يحتفظ ببعض الأشياء لنفسه ليقول: "هذا لي وليس لكم"، فمحمد ديب كتب الشعر وكتب الرواية والأعظم من كل هذا أنه كتب نصوصا وكتبا أخرى لا يمكن استيعابها مع الشعر ولا مع الرواية وظل يحتفظ بها في الدرج.محمد ديب والرحلة من شجر الكلام إلى ممر الأيائلعرض الديابوراما الذي رافقته قراءة للمترجم عبد السلام يخلف، بدأه برسالة لصديقه سليم بوفنداسة في رسالة إلكترونية من باريس بأنه سيزور قبر محمد ديب غدا، وجاء الغد الخميس 09 أوت 2007، وتبدأ الرحلة من محطة سان لازار للقطار التي كانت هادئة والناس يروحون ويجيئون كلهم اطمئنان، ويشتعل ضوء الممر رقم 03، آخر مسافر يجري كي يلحق بالعربة الراحلة إلى لذة المنتهى، بعد ثواني يغلق الممر وكذا الأبواب الأوتوماتيكية للقطار، على بوابة الممر رقم 2 لوح يشبه لافتة زرقاء كتبت عليها أسماء لمحطات سوف تأتي؛ الثانية ظهرا و7 دقائق، ينطلق القطار باتجاه "لاسيل سن كو"، يمر على محطات ديفانس، سان كلو، غارش، فوكغوسون، لا سيل سان كلو، ثم تستمر رحلته من بوجيفال إلى آخر محطة، والغريب في رحلة البحث هذه كما يقول عبد السلام، حين بدأتها لم أبحث عن هذا الرجل لم أبحث عن عنوان بيت أو رقم هاتف أو مقهى، بل بحثت مباشرة عن اسم مقبرة دلني عليها محرك البحث غوغل، يبحث عن مواقيت القطار، يدقق في الأسماء الغريبة التي من الضروري المرور عليها للوصول إلى محمد ديب، يغادر المحطة مترجلا باتجاه وسط المدينة كما تقول الخارطة التي حملها من الإنترنت، الشارع الرئيسي خال من الخطوات، كأنه أمام مدينة خيالية لا يوجد بها بشر، لافتة خضراء كبيرة تدل على الاتجاهات، مقبرة هناك كما أشارت إليه الحروف البيضاء على اللوح الحديدي الأخضر، سور حجري ممتد إلى اليسار لا ينتهي، إلى اليمين غابة لا تنتهي، وتدور مع منعرج حاد صغير يتوجه نحو اليمين في صعود بطيء، وأخيرا الوصول إلى المقبرة، كأي سلعة أخرى كتبت أثمان القبور، بعد التحية المعهودة أخذ الحارس سماعة الهاتف وقال بحماسة زائدة بعض الشيء، "هنا شخص يبحث عن قبر لشخص اسمه محمد ديب، المربع رقم 103، يقول الحارس بأنه لم يكن يعرفه سابقا، بل تعرف عليه حين جاءت مجموعة من الناس لدفنه، يتبع الرجل الذي يمشي بهدوء والذي يسأله لماذا دفن محمد ديب هنا وليس في الجزائر، يرد بأن الحكاية طويلة تختصرها أنانية السياسي وبلادتنا وغفلة النائمين، واصلا السير والحديث عن الجزائر وجمالها ومسار الرجل، عن الروايات التي كتبت عن بني بوبلال وتلمسان، توقف الحارس قائلا "هذا هو محمد ديب لأنك لا تريد الحديث عن القبر".انصرف الرجل وتركه وحيدا أمام قطعة رخام رمادية كتب على واجهتها شجرة الكلام، لم يصدق أن كاتب "الحريق" وما "يشبه أزيز النحل" قد استسلم في النهاية للمساء وتمدد يحلم بالمستحيل، يغادر المقبرة في اتجاه بيته لعله يجده يرتاح في شرفة أو حديقة مورقة بيده كأس شاي بالنعناع، مشى طويلا إلى الشارع الذي يسكنه محمد ديب الذي يحمل اسم "ممر الأيائل"، حسب ما تقول خارطة غوغل، بعد كذا شارع وكنيسة وعمارة وسور بلا نوافذ، يصل إلى حي هادئ به خضرة وأشجار وبعض العمارات الباهتة السمجة، يحاول صعود سلم العمارة والباب مغلق، يتقدم من قائمة أسماء ساكني العمارة، ما زال اسم محمد ديب على الباب، يمد يده كي يقرع الجرس ثم يصعد السلم ويدق الباب، لكنه يعيد يده من منتصف الطريق، وهو يتذكر آخر رسالة إلكترونية وردت ليلا من صديقه سليم بوفنداسة تقول ردا على فكرة الزيارة: لا تزعج الموتى فإنهم لا يحبون التدخل في شؤونهم الخاصة"، هنا تنتهي رحلة البحث التي انطلقت من شجر الكلام إلى ممر الأيائل.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 07/05/2018
مضاف من طرف : tlemcen2011
صاحب المقال : الأمين حجاج
المصدر : hayatweb.com