الجزائر

عبد الحق الأنصاري البجائي



الشيخ أبو محمد عبد الحق بن ربيع بن أحمد بن عمير الأنصاري، أصله من إبله، وجده، عمير هو الواصل إلى بجاية مستوطنا، و لد ببجاية، و قرأ بها، ولقي مشايخ.
و كان رحمه الله روح بلده و مصره، و أوسطه أهل زمانه و عصره، كان يحمل فنونا من العلم: الفقه، و الأصلان أصول الدين و أصول الفقه، و المنطق و التصوف، و الكتابتان الشرعية و الأدبية، والفرائض و الحساب، و كان ابن مقلة زمانه، له خطوط جميلة و أخلاق حسان لم تكن لغيره، وكانت فيه دعابة مستحسنة مستظرفة، و كان من أملح الناس نوادر على طريقة أمثاله من فضلاء أهل العلم و التخلق، وكان من أملح الناس نوادر على طريقة أمثاله من فضلاء أهل العلم و التخلق، وكان إذا أثنى عليه يحسن الخلق يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن"، و من لم يكن عنده أول ما يوضع في الميزان، لم يكن عنده غيره، إن هذا يجري مجرى الأنفاس.
تخطط في بلده بالعدالة، وكانت له صفة و ناب عن القضاء في الأحكام مطلقا و كان هو المشاور عندهم و المعول على ما عنده، و كان هو القاضي على القضاة بالحقيقة، لأن مرجع أمرهم إنما كان إليه، وكان له باطن سليم، سمعته رحمه الله يقول: و الله ما بات قط في نفسي شر لمسلم فجزاه الله بنيته وعامله، بالحسنى عن طويته و كان مصمتا مفوها، حسن العبارة، مليح الإشارة، أربى في وثائقه على من تقدم، لو رآه أبو الحسن علي بن يحي ابن القاسم لا تبعه، ولقد رأيت الشيخ أبا محمد عبد الحق بن سبعين رحمه الله أثنى عليه في بعض كتبه ثناء حسنا، و ذكر حاله في الوثيقة، و الوثيقة مع هذا إنما هي صفة من صفاته هو أخرى من حاجاته، ولما كانت معرفته باللسان بمواقع المعاني مجملة و مفصلة، و بالأحكام كلية و جزئية على حال إحاطة تقدمت و ثيقته الوثائق، و أماطت الشبه و العلائق، و سمعت عن الفقيه أبي المطرف ابن عميرة أنه قال: و من طرائف أخباره و ملح آثاره، مما رأيت وشهدت، ما تصغى له الآذان، و يسعد به الفؤاد و الجنانن ولقد أجيبت فيه الدعوة أبيه، سمعت أنه لما حج دعا له حيث يجاب، فقال: يا عبد الرزاق رزقك الله لفظا و خطا، فكان كذلك، وقد نظم في مدة قراءته على الشيخ أبي الحسن الحرالي القصيدة التصوفية، وكانت من نحو خمس مئة بيت، فلخصها له الشيخ رحمه الله في هذه الأبيات، انتقاها منها وترك ما عداها و هي:
سفرت على وجه الجميل فاسفـرا
و بدا الهلال الحسن منهـا مقمـرا
و دنت مكاشفة القلوب بأسرهـا
و سقت شراب الأنس منها كوثـرا
و رأيتها في كل شيء أبصــرت
عيناي حتى عددت كلي مبصــرا
و سمعت نطق الناطقين فكلهــم
بالحمد و التسبيح عنها أخـــبرا
و بها ركبت زواخرا من حبهــا
و لبست سر السر ثوبا أحمـــرا
و بها فنيت عن الفناء وغصـت في
ماء الحياء مسرمدا و مدهـــرا
في الماء يظهر كل شيء كائــن
و به يرى مثل الوجود مصــورا
و أنا أرى في كل ماء مـــاءه
و أرى وراء الماء مـاء آخـــرا
فإذا وصلت به إليه فراجعـــن
تلك المنازل نقلة متفكـــرا
فمتى أردت إيانة عن بعض مــا
في الـقلب من سر مصون عبرا
فارفع به ظلم الحجـاب فرفعهـا
ينجيك من غرس المنى ما أثمـرا
فتراه حين تراك ذاتـا رافعـــا
للبس حتى لا ترى إلا العــرا
فهناك يفتح بابه و لطالمــــا
قد كان قبل مبهما متعــذرا
افصاح نحوي لا تفي بمواحــدي
و بيانه لا يستقل بما جـــرا
لو كان سر الله يكــشف لم يكن
سرا و لكن لم يكنه ليذكــرا
قلت: و هذه القصيدة حسنة المعنى قدسية المبنى، و لقد و قع الحديث معه في حديث مقتضياتها، ونظم مفرداتها من دوحاتها، و كان أكثر الناس أنصافا في المذاكرة، عرض عليه قضاء بجاية فامتنع منه، ووصل إليه كتاب المستنصر بقضاء قسنطينة حرسها الله فاعتذر، وتعطف في الآستعفاء عنه، و سمعت كثيرا من أهل العلم يثنون عليه و يقولون: إنه لم يكن في وقته بمغربنا الأوسط مثله.
توفي رحمه الله في الثامن و العشرين لربيع الأول من عام خمسة و سبعين و ست مئة (675)، ودفن بخارج باب المرسى، و كان له مشهدا لا يكون إلا لأمثاله، و تأريخ وفاته في رخامة وضعت لحدا على قبره، وكتب فيها بيتان هما من نظم الأديب الفاضل أبي نصر الجيني:
بكـــــيتك عبد الحق حقا لأنني
بكيت بك الدنيا و ما في جميعهـا
من الدين و الافضـال و العلم و الحجى
و إن كنـت زين الدين زهر ربيعها
وكان رحمه الله أعلى الناس همة، و أرفعهم منزلة و كان إذا أولى المعروف لا يذكره، وربما من فعل معه لا يعلم أنه هو الفاعل له، إنما قصده وصول النفع إلى الموصل إليه، علم ذلك أو لم يعلمه، و من ذلك ما هو مشهور عند أصحابنا و هو أن القاضي أبا إسحاق ابن عياش، رحمه الله أيم كان ببجاية ساعيا في نيل الخطة و عاملا على التحصيل الخطوة، سعي في شأنه عند القاضي الجليل أبي محمد بن الطير أن يرسمه برسم العدالة، و يقدمه للشهادة فطلبه أن يكتب فيه رسما يتأهله لذلك، تحوطا منه فكتب رسما و شهد فيه، وشهد معه شاهد آخر استكتمه الفقيه في ذلك، وأعطى الرسم للقاضي فإذن له في الشهادة و بقي القاضي مدة بقائه، وانفضل إلى افريقية، و انتقل أيضا أبو إسحاق ابن عياش إلى الحضارة تونس و استوطنها، و كان أحد عدولها المنتصبين للوثيقة بها، و توفي القاضي أبو محمد ابن الطير بعد مدة بتونس، ووقع الحضور لتركته، وحضر لها شهيدان لا نعلم هل القاضي أبو اسحاق واحد منهما، فوجد الرسم وتركته واطلع عليه القاضي ابن عياش فتعجب كل العجب، و أثنى عليه الشيخ رحمه الله بما وجب وقال: والله شعرت بهذا قط و لا عرفت و دخلت عليه، رحمه الله، في مرضه الذي توفي فيه، فتألمت لألمه، و ذرفت عيناي لما اعتراه من سقمه، فقال لي: يا فلان و الله ما بي موتي، و إنما بي ما قاله أفلاطون لأصحابه لما حضرته الوفاة، و حضروا عنده قال: و الله ما بي أن أموت، وإنما بي أن أموت و لم أرق بأصحابي إلى مراقبهم التي اقتضاها صفاتهم، و استحقتها ذواتهم، فشكرته على ذلك، وعاقة الأمل بالحياة و طول البقاء إلى أن يوفي لأصحابه، بما جلبت، عليه نفسه الكريمة من الوفاء اهـ. من "عنوان الدارية" باختصار.
و اختصره في "نيل الابتهاج" بما نصه: عبد الحق بن ربيع بن أحمد الأنصاري، ولد ببجاية، وقرأ بها على مشايخ، وكان روح بلده و مصره، وواسطة نظام أهل عصره، عنده فنون من العلم من فقه و أصلين ومنطق و تصوف و الكتابين الشرعية و الأدبية، حسن الخلق إذا أثنى عليه به يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن." و من لم يكن عنده أول ما يوضع في ميزانه لم يكن عنده غيره لأنه الأساس.
ناب عن القضاة في الأحكام، وهو المشاور عندهم و المعول عليه، بل هو القاضي على القضاة في الحقيقة لرجوعهم إليه، كان سليم الباطن سمعته يقول: و الله ما بت قط في نفسي شر لمسلم، جزاه الله عن نيته و كان مفوها حسن العبارة، عرض عليه قضاء بجاية فامتنع، توفي ثامن و عشري ربيع الأخير سنة خمس و سبعين و ست مئة (675) ببجاية.



سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)