يواجه العالم الإسلامي اليوم أزمة في العقول والتفكير أكثر ما يواجه أزمات أخرى، لأن كل سلوك وتصرف هو في الأصل نتاج طبيعي للقناعات والأفكار والبنية الفكرية التي نتبناها ونقتنع بها والطريقة التي نعالج بها معارفنا ومعلوماتنا التي نتعلمها أو نكتسبها. ولهذا نجد الكثير من العلماء والمفكرين ساهموا في محاولة تفكيك العقل المسلم من أجل إعادة تشكيله، لا سيما مساهمات مالك بن نبي وعابد الجابري ومحمد الغزالي وشكيب أرسلان ومحمد أركون وغيرهم.فالعقل المسلم، حسب مالك بن نبي، في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، أنه يفكر إلا كمُتَّهم أو كمتَّهِم، حيث ينظر إلى العالم من حوله من زاوية التبرير والدفاع عن نفسه ودينه وعقيدته وكأنه يحمل عقدة الذنب والاتهام لجريمة مشبته في ارتكبها، كجريمة الإرهاب التي أصبحت لصيقة بكل مسلم في العالم، والتي غذاها تيار الإسلاموفوبيا في الغرب ودعمتها ممارسات الكثير من الإسلاميين الذين ينصبون أنفسهم دعاة للإسلام. وفي أحيان أخرى يسيطر على تفكيرهم السب والشتم واللمز والغمز والاتهام بالتآمر والخيانة والخروج عن الدين لكل من يفكر بطرقة مختلفة عن تفكيرهم أو يناقش علماءهم ودعاتهم وأعضاء جماعتهم. بدليل ما نجده من صراع واقتتال بين الجماعات الإسلامية للاستيلاء على المساجد والجمعيات في كل دول العالم، حتى أصبحت كل أمة (جماعة) تلعن أختها وتتهمها بكل الاتهامات بشكل جزافي.كما أن العقل المسلم يمتاز بالتقديس لكل ما له علاقة بالدين، حيث لا يستطيع الكثير من الأتباع والمريدين لهذه الجماعات التمييز بين الدين (القرآن الكريم) كشيء مقدس وبين تفسير وفهم القرآن والسنة كعمل عقلي بشري يخطئ ويصيب أو يقارب الصواب، بدليل وجود تفسيرات متعددة للقرآن الكريم ماضيا وحديثا، وأصبحوا يشكلون صورا ذهنية نمطية بطريقة واعية أو لا واعية تعتبر كل فكرة أو اجتهاد يصدر من أي شخص منهم لمجرد أنه يحمل صفة الإسلام والدين والداعية أو الشيخ يعتبر مقدسا لا يحق لأي كان مناقشته ولا اعتراضه ولا مواجهته ونقده بأفكار وفهم جديد. بل كثيرا ما نجد مقاومة وهجوما وقصف لدى هؤلاء بكل الأساليب والوسائل المشينة لمن يفعل ذلك، سواء كانوا علماء دين أو مفكرين أو مثقفين أو غيرهم. والبعض من الذي تجرأوا على نقدهم ومناقشة طروحاتهم وألفوا لذلك كتبا ونشروا مقالات تم تكفيرهم ثم اغتيالهم فيما بعد كعملية منطقية وإجرائية لديهم.ويمتاز العقل المسلم بأنه يتعلق بعالم الأشياء والأشخاص أكثر ما يتعلق بعالم الأفكار بحسب تعبير مالك بن نبي، لذلك نجد الكثير لا يحاولون مناقشة الأفكار التي تطرح للنقاش عليهم بقدر ما يتعرضون للشخص الذي يناقشهم، إما بالاستهزاء تارة وبالاتهام والتخوين تارة أخرى وبالتشكيك والتشويه وتلفيق القصص الأخلاقية ضده. كما فُعل بالكثير من المفكرين والمجددين والعلماء المعاصرين وفي القرون الماضية، لا سيما محمد الغزالي والبوطي ومحمد أركون وأبو حامد الغزالي وابن رشد وغيرهم.إن العقل المسلم يهتم بالشعارات والدعايات أكثر مما يهتم بالبرامج والإجراءات التطبيقية المستوحاة من فلسفة الحياة في الإسلام، وهو ما جعل مالك بن نبي يقول إن المسلم اليوم ليس في حاجة إلى من يعرفه بدينه وعقيدته لأنها موجودة لديه، بل يحتاج إلى من يترجم تلك القيم والاعتقادات والتعاليم الدينية إلى سلوكات وبرامج عمل ميدانية ترقى بالمسلم إلى مستوى الحضارة والتحضر في علاقته وتصرفاته وفي قناعاته اتجاه العلم والعمل وغيرها من الأمور الحياتية. العقل المسلم مازال حبيس الخطاب المسجدي (خطاب أحادي الاتجاه وليس تفاعليا لا توجد فيه لا مناقشة ولا رد على ما يقدم)، والذي يمتاز بالعاطفي والانفعالي التعبوي والتحشيدي لكسب المناصرين للجماعة التي ينتمي إليها الخطيب أكثر ما يميل إلى الموضوعية يحاول الإقناع بالحجج والبراهين المنطقية والعقلية والعلمية الميدانية، لجعل الناس يلتزمون بالسلوك والتكفير وفق قيم ومبادئ الإسلام ومقاصده. فهو عقل لم ينمو في المعاهد والمراكز العلمية التي تنمّي التفكير والاجتهاد والإبداع. العقل المسلم اليوم تسيطر عليه الانفعالات أكثر ما تسيطر عليه البصيرة والحكمة في قراءة الأحداث ومقاربتها بأدوات علمية ومنطقية، لذلك كثيرا ما يقع في فخ ردود الأفعال والاندفاع والتهور في معالجة قضايا الصراع الفكري والحروب النفسية المعاصرة، وأمثلة ذلك كثيرة، منها ما عالجها المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه الصراع الفكري في البلاد المستعمرة في خمسينيات وستينيات من القرن الماضي، قضايا معاصرة مثل قضية كتاب سلمان رشدي والرسومات والأفلام المسيئة للرسول صلى اللّه عليه وسلم وغيرها من القضايا الحضارية المتنوعة. حيث نجح الآخرون في جعل غالبية المسلمين أمام وضعيات المثير والاستجابة لاستنفاد طاقاتنا في معارك هامشية أو وهمية، كما هو الصراع المذهبي والديني فيما بين المسلمين اليوم الذي يغذيه الجميع في الخطابات المسجدية والإعلامية لزرع الكراهية أكثر فأكثر ثم الاقتتال المسلح كما هو في عالمنا العربي والإسلامي.إن عقول الكثير من المسلمين أصبحت تنصّب نفسها وصية على عقول بقية المسلمين، فتحتكر لنفسها الفهم والتفسير للنصوص القرآنية، معتبرة من يفكر أو يحاول يفهم والتفسير للنصوص القرآنية والسنة النبوية بطريقة أخرى وبمنهجيات مختلفة ضالا وخارجا عن الدين أو فاسقا أو زنديقا، وغير ذلك من القوالب الفكرية الجاهزة التي تقصف إعلاميا ومسجديا بشكل جزافي. حتى أصبحت كل جماعة إسلامية تكفر وتفسق الأخرى للأسباب والاعتبارات نفسها. العقل المسلم يميل إلى القوالب الجاهزة والأفكار النمطية، وإلى الموروث الثقافي الماضي والفهم الكلاسيكي للدين أكثر ما يميل إلى الفهم المتجدد وإلى الإبداع وقبول الاجتهادات الجديدة والطروحات المتجددة من علماء معاصرين. وهو نوع من المقاومة النفسية والفكرية والخوف اللاشعوري من كل جديد، وكأنه نوع من الحرص على الدين نفسه.العقل المسلم في الكثير من الأحيان يميل إلى قبول الخرافات والأوهام أكثر مما يقبل بالتفكير العلمي المنطقي والاستقرائي في الكثير من القضايا والظواهر، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والنفسية والسلوكية. وظهر هذا الأمر في خطابات بعض الدعاة والشيوخ بادّعائهم أنهم وجدوا حلما ينبؤهم باقتراب النصر وبقتال الملائكة معهم ضد إخوانهم المسلمين الآخرين، وأن هناك كرامات ظهرت لدى مقاتليهم، كما حدث في أفغانستان أو أنهم رأوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المنام يزيكهم أو أنهم رأوا في السماء كلمة اللّه أكبر أثناء تجمعاتهم واجتماعاتهم وغيرها من الخرافات التي يوظفونها في الحشد الجماهيري وكسب المزيد من القداسة على أعمالهم وتصرفاتهم. حتى أصبح هناك من مازال يصدق ويؤمن بالتغيير الفجائي الذي يأتي بطريقة المعجزات كما حدث في عصر الأنبياء والرسل، ولا يؤمن بالتغيير الذي يأتي بالسعي والعمل الإنساني وفق سنن اللّه في التغيير الذي يخطئ ويصيب.العقل المسلم حبيس أدبيات التنظيمات والجماعات التي تنشط تحت راية الدعوة الإسلامية ونشر الإسلام والتي لكل منها أهدافها السياسية والتنظيمية لحشد الجماهير وتعبئتها للمريدين والأتباع. لذلك نجد أنها تشكل لها قوالب عقلية جاهزة ترى بها كل من ينتمي إليها تعتبره مؤمن ومن لا ينتمي إليها أو لا يساندها فهو مشكوك في إيمانه أو أنه لا يحب الإسلام أو عدو له، بل البعض من الجماعات تعتبر من لم يساندها ولم يقبل أفكارها وطروحاتها فهو كافرا بالدين. وقد ظهر هذا التفكير كثيرا أثناء الحملات الانتخابية، حيث تجد قادة الجماعات الإسلامية تمارس إرهابا فكريا على عقول المسلمين عندما تضع لها الاختيار بين الإسلام (يعني تنظيمها وحزبها) وبين الكفر والخروج عن الإسلام يعني التنظيمات والجماعات الأخرى التي تفكر وتفهم الإسلام بطريقة مختلفة. فصنعوا للمريدين أصناما جديدة حتى لا يمنعونهم من التفكير والنقد لكل تصرفاتهم، وقد غذوا اعتقادات وتصورات لديهم بمقولات مغلفة بنوع من القداسة كلحم العلماء مسموم أو رد كلامهم يعتبر خروجا عن الدين. وهو ما أدى ذلك إلى ظهور شبه أديان جديدة لدى كل جماعة إسلامية تحمل مسميات متنوعة: كدين الجماعة ودين الحزب ودين المذهب ودين الطائفة ودين القبيلة ودين الدولة ودين المقاطعة والقطر الجغرافي وغيرها من المواصفات والخصائص التي تحتاج إلى التفكيك وإعادة النظر قبل العمل على تفكيك ومراجعة المرجعيات الفكرية والدينية التي سبق وأن خاض فيها الكثير من المفكرين والعلماء، ولكن الكثير من الحركات الإسلامية قامت بحجبها عن عقول أتباعها بالتشويه والتشكيك والتخوين والتكفير والتفسيق وغيرها من القوالب التي نمتها وغذتها لديهم، فأصبحت جزءا من إستراتيجيات نظام تفكير الغالبية العظمى من المسلمين للأسف الشديد.فكم نحن بحاجة إلى التفتح أكثر على أفكار واجتهادات الآخرين وآرائهم وحججهم وبراهينهم حتى ندنوا معا إلى الحقيقة، التي لن نبلغها ما دمنا بشرا تتحكم في أفكارنا ونظام تفكيرنا عوامل كثيرة، لا سيما أهوائنا وشهواتنا ونزعاتنا وأمزجتنا وعصبياتنا وعقدنا النفسية وأمراضنا وضغوطنا النفسية، وكذا ظروفنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية، إلى جانب تأثير خلفياتنا وأحكامنا المسبقة وتصوراتنا اتجاه كل القضايا التي نفكر فيها، وتأثير تجاربنا وتاريخنا النفسي بآلامه وأحزانه وأفراحه وايجابياته وفق نظرية التعلم الاجتماعي لباندورا الذي يؤكد على أهمية عملية التفاعل بين الخبرات والتجارب والظروف النفسية الخاصة بالفرد وبين ظروف بيئته الاجتماعية والثقافية والسياسية في تحديد طريقة معالجة الأفكار وطريقة التفكير لدى الإنسان. كما يتأثر تفكيرنا أيضا بمرجعياتنا الفكرية وميولنا وتخصصاتنا العلمية وغيرها، وهو ما يفسر سر اختلاف العقول في التفكير والاستنتاج والاستنباط وغيرها من العمليات العقلية التي تتطلب معالجة للمعلومات والمعارف، والتي تجعلنا نقبل الاختلاف مع الآخرين ونحترم وجهات نظرهم واستنتاجاتهم ولا ننغلق على أنفسنا ونتعصب لأفكارنا.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 13/03/2015
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : خالد عبد السلام قسم علم النفس جامعة سطيف2
المصدر : www.elkhabar.com