الجزائر

شهلاء العينين..



ما أكثر ما اعترضت مطالعاتي تعابير يصف أصحابها بعض الجميلات في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية! وهي تعابير تتشابه في مجملها من حيث المضمون حتى وإن كان هناك تفاوت فيما بينها من حيث الدقة. أجل، قرأت عن ”شهلاوات الأعين” وعن ”عيون المها” وعن ”الحواجب المقوسة” وعن ”العيون الدعج” وغيرها من الأوصاف التي رسخت في وجداني منذ الصبا الأول.
وأحسب أن وصف ”شهيلة العياني” هو الذي ظل موفور الحظ في أعماقي، وأظن أيضا أنه سيظل على هذا الحظ دائما وأبدا.
في عام 1959، أي حين كانت الثورة الجزائية في عز التهابها، ذاع صيت المطرب الشعبي ”عبد الكريم غرامي” بأغنية أسماها ”شهيلة العياني” أي ”ذات العينين الشهلاوين”، وراح العديد من الشبان الجزائريين يرددون تلك الأغنية في كل زقاق وشارع، وفي المقاهي والملاعب الرياضية وعلى الشواطئ، شرقا وغربا. وشاهد البعض منهم المطرب عبد الحكيم غرامي في التلفزة وهو يؤدي تلك الأغنية ضمن فرقة موسيقية شعبية ما عدت أذكر اسم قائدها.
ثم نسيت كغيري من المنصتين الآخرين، تلك الأغنية الشعبية ونسيت في الوقت نفسه الكلمات التي نظمها ذلك المطرب. وعرفت بعد ذلك بوقت طويل أن جملها النغمية مأخوذة من قطعة موسيقية أندلسية أحسن توضيبها وقولبتها مع الكلمات.
وذات مساء من عام 1966، تسنى لي بمناسبة سهرة رمضانية في حي ”كليما دوفرانس” بأعالي حي باب الوادي أن أتعرف على شخص المطرب عبد الحكيم غرامي. تأملته وهو يضبط أوتار قيثارته لكي يؤدي إحدى الأغاني الشعبية. وحين طلبت منه تأدية أغنية ”شهيلة العياني”، أوجد لنفسه الكثير من الأعذار والتعلات، وقد يعود ذلك إلى أنه نسي بعض كلماتها بالرغم من أنه هو الذي كان وراء نظمها.
وما زلت أتذكر، وأنا مع أحد رفقاء الصبا، كيف أن المطرب عبد الحكيم غرامي راح يدندن لنفسه استخبارا شعبيا على سبيل الاستهلال والدخول إلى قلب الأغنية التي يريد تأديتها. تذمر صديقي من سلوكه، وقال بصوت مرتفع :«الشيخ إيهنهن!”، أي إنه كان يبحث عن الكلمات واللحن. ولم يرق ذلك في أنظار المطرب عبد الحكيم غرامي فحدجه بنظرة تعني ما تعنيه، غير أن رفيقي أردف قائلا: ”يبدو أنه بعيد عنا وعن شهر رمضان وعن الجزائر كلها! وهنا بالذات، توقف عبد الحكيم غرامي عن العزف و«الهنهنة”، وتناول صحنا صغيرا فيه بعض ”قلب اللوز”، وقذفنا به معا، غير أنه لم يصب أحدا منا. ثم قام من مكانه تاركا القيثارة جانبا ومحاولا الاقتراب منا على سبيل طردنا نحن الاثنين. وما أسرع ما تهاوى أرضا. وعلمنا عندئذ أنه كان إنسانا نصف مشلول، يقف على عكازتين طبيتين منذ زمن بعيد، قد يعود إلى عهد صباه الأول.
وكان أن غادرت القاعة الفسيحة التي كانت في أصلها إسطبلا تم تنظيفه أحسن تنظيف، ولم تبق منه أية رائحة بالرغم من أنه ظل لعقود من الزمن في ملكية مالطي كان يربي فيه الأبقار منذ العشرينات من القرن المنصرم.ولما كان صديقي أريحي الصدر، فإنه طلب مني بعد عيد الفطر أن نذهب إلى نفس المكان ونقدم اعتذاراتنا للمطرب عبد الحكيم غرامي الذي تقبلها هو الآخر برحابة صدر، وقال: أحمد الله على أنني لم أنلكما بسوء حين قذفتكما بمنفضة السجائر! وقلت له مصححا: بل أنت، يا صاحب أغنية ”شهيلة العياني”، قذفتنا بصحن فيه حلوى ”قلب اللوز”. وابتسم حينها، وراح يدندن أغنيته الشهيرة دون أن يستعين بآلة القيثار.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)