كلّ إنسان يحرص أن يكون شريفًا في أعين النّاس، ويحرص أن تكون له مكانة عند النّاس، ويحرص أن يقدّره النّاس لمقامه أو جاهه أو منصبه أو علمه، بل أكثر النّاس يتزيّن للنّاس، ويحرص على أن يظهر لهم أجمل ما فيه، أو حتّى أجمل ما يتوهّمونه فيه! هذه طبيعة الإنسان وهذه جِبِلّته، ولا عيب في ذلك عليه ولا ضير.غير أنّ العيب كلّه أن يحرص الإنسان على كلّ ما سبق ذكره وهو يعلم من نفسه أنّ حقيقته مخالفة تمام المخالفة لكلّ ذلك، العيب كلّ العيب أن يعمل المرء على تحقيق ذلك بوسائل غير مشروعة، فيزيد انحرافًا إلى انحرافه، ويبتغي شرفًا بنذالة ويسعى إلى طُهر بخبيث!
إنّه لمن الخطأ الجسيم أن يجعل تقدير النّاس بأموالهم لا بأعمالهم، وبمظاهرهم لا بنفعهم، وبشهرتهم الذّائعة بين النّاس لا بأثرهم الطّيب في حياة النّاس، خاصة في هذا الزّمن البئيس الّذي نعيشه، ونشهد فيه لكع بن لكع تُفرش لهم البُسُط الحمراء، وتبذل لهم الأموال الطّائلة، وتُسخّر وسائل الإعلام المُمَولة من ثروة الأمّة لتغطية أخبارهم السّخيفة -وحتّى فضائحهم المخزية- وأعمالهم الّتي لا نفع فيها إلّا تضييع الأوقات، وشغل النّاس عن المُهمات...
والمسلم عليه أن يهتدي بالقرآن العظيم الّذي يهدي للّتي هي أقوم في كلّ الشّؤون والأمور والقضايا، وفي هذا الموضوع الخطير الّذي نحن بصدده، لا بُدّ للمسلم أن يتدبّر طويلاً قول الله جلّ شأنه: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. فقد قال بعض العلماء معنى الخبيث والطيب: الحلال والحرام، أو المؤمن والكافر أو المطيع والعاصي أو الرّديء والجيّد. والآية تشمل كلّ ذلك وأكثر، فتشمل الأشخاص والأعمال والأقوال، فالخبيث لا يساوي الطّيب بحال من الأحوال، وهي مثل ضربه الله سبحانه لنا تنبيهًا وتعليمًا، فهو عام، فيتصوّر في المكاسب، والأعمال، والنّاس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كلّه لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر؛ لأنّ خبث الشّيء أو الشّخص يبطل فائدته، ويمحق بركته، ويذهب بمنفعته، والطّيب وإن قلّ نافع، جميل العاقبة.
والآية توجيه للمسلم حتّى يحرص على التّفريق بين الطّيب والخبيث، وأن لا ينخدع بالمظاهر الكاذبة والدّعايات الخادعة، قال الإمام الأستاذ الطاهر بن عاشور رحمه الله: ”ولمّا كان من المعلوم أنّ الخبيث لا يساوي الطّيب وأنّ البون بينهما بعيد، علم السّامع من هذا أنّ المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطّيب في كلّ ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس؛ ليعلموا أنّ ثمّة خبيثًا قد التفّ في لباس الحسن فتموّه على النّاظرين؛ ولذلك قال: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}. فكان الخبيث المقصود في الآية شيئًا تلبّس بالكثرة فراق في أعين النّاظرين لكثرته، ففتح أعينهم للتأمّل فيه؛ ليعلموا خُبثه ولا تعجبهم كثرته... والمراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيرًا فتصرفكم عن التأمّل من خبثه وتحدوكم إلى متابعته لكثرته، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها”.
وقال الإمام الأستاذ عبد الحميد بن باديس رحمه الله: ”علمنا: ألاّ ننظُر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية، بل نعبر من الظّواهر إلى البواطن، وننظر من المحسوس إلى المعقول، ونجعل حواسنا خادمة لعقولنا، ونجعل عقولنا هي المتصرّفة الحاكمة بالنّظر والتّفكير. علّمنا هذا بقوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}. فلا ننظر إلى بهرجة الكثرة، ولكن إلى حقيقة وحالة الشّيء الكثير فنعتبر بحسبهما”.
وتأكيدًا لمعنى الآية الكريمة، وتنزيلًا لها على الواقع، ضرب لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثلاً حيّا، فعن سهلِ بن سَعْدٍ السّاعدي رضي الله عنه قال: مرَّ رَجُلٌ على رَسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فقالَ لرَجُلٍ عِنْدَه جالسٍ: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا»؟، فقال: رجلٌ مِن أَشْرافِ النّاسِ، هذا والله حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشفَّعَ، قال: فَسَكَتَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فقالَ لهُ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا»؟، فقالَ: يا رسولَ الله! هذا رَجُلٌ مِن فُقَراءَ المُسلِمينَ، هذا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْمَعَ لقولهِ، فقالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» رواه البخاريّ وغيره.
وإنّي لأتساءل كم هم الّذين يملؤون الدّنيا شهرة، ويتمنّى كثير من النّاس أن يكونوا مثلهم، وهم لا يساوون عند الله جناح بعوضة..! قال التّابعي الجليل محمد بن كعب القرظيّ رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}، قال: تخفض رجالًا كانوا في الدّنيا مرتفعين، وترفع رجالًا كانوا في الدّنيا مخفوضين.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 31/01/2018
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : يوسف نواسة
المصدر : www.elkhabar.com