رغم أن سياسة الجزائر الخارجية ترتكز على مبدأ النّأي بالنفس عن التدخل في شؤون الدول الاخرى، إلا أن آلتها الدبلوماسية كثيرا ما تتحرك لمساعدة الأشقاء والأصدقاء على تجاوز أزماتهم وحلّ معضلاتهم.ومسار الجزائر المستقلة حافل بمساعي التوسط لحل الأزمات، الحروب والتوترات التي تتفجر هنا وهناك، رغم ما يكلفها من جهد وتضحيات ويكفي التذكير بالثمن الغالي الذي دفعته لما حاولت إطفاء نار الحرب العراقية – الإيرانية حيث قتل وزير خارجيتها محمد بن يحيى في 4 ماي 1982 خلال مهمة مكوكية بين بغداد وطهران .ولعلّ من أنجح الوساطات التي قادتها الدبلوماسية الجزائرية ببراعة، هي تلك التي تمخّض عنها الاتفاق الذي وقعه شاه إيران محمد رضا بهلوي ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي صدام حسين في1975 والمعروف ب«اتفاق الجزائر"حيث ساهم في تهدئة الأجواء المتوترة بين بغداد وطهران.كما حاولت الجزائر أن تقوم بدور رجل المطافئ لإخماد النّار التي كادت تحرق العراق وإيران في ثمانينات القرن الماضي من منطلق أن لا مصلحة لأحد في اندلاع نزاع من هذا النوع يستنزف طاقات البلدين ويهدد الاستقرار في المنطقة، لكن المحاولة أجهضت لما نسف صاروخ طائرة وزير الخارجية محمد بن يحيى وهي تسلك المثلث الحدودي العراقي-الإيراني-التركي..تاريخ حافل بجهود الوساطة مساعي الجزائر النابعة من الحرص على عدم التخلي عن واجب مساعدة الاشقاء والأصدقاء في حال تعرضهم للخطر أو لتحديات أمنية كبرى، نستشفها أيضا من خلال جهود الوساطة الكثيرة التي بذلتها لتسوية الأزمات الداخلية في دولة مالي المجاورة في سنوات 1990، 1996، 2006، 2012-2013 وفي سبتمبر الماضي.فانطلاقا من أن دولة مالي تمثل عمقا استراتيجيا للجزائر، وتدهور الأمن بها له تأثيره الخطير على الأمن القومي الجزائري، فقد سعت بلادنا دوما إلى عرض وساطتها على الفرقاء في مالي لتفكيك مختلف الألغام التي تتفجّر في كل مرة على شكل نزاعات دموية وعرقية وانقلابات عسكرية،ونسجل أن الدبلوماسية الجزائرية لم تدر أبدا ظهرها للشعب الماليومازالت إلى اليوم تبذل كل جهودها لمساعدته على إعادة الأمن والاستقرار خاصة في الشمال الذي يقع تحت تهديد المجموعات الإرهابية والإجرامية والانفصاليّين الطوارق.لقد شهدت سنة 1990 أوّل صدام حقيقي بين الطوارق والجيش النظاميالمالي، وجاء إحياء مشروع دولة الطوارق الكبرى بإيعاز من جهات مشبوهة، ليوتّر المنطقة وليهدّد بتفجيرها، ما يجعل الأمن القومي الجزائري في خطر، لهذا بادرت الجزائر إلى عقد قمة رباعية بمدينة جانت في سبتمبر 1990 ضمّت بالإضافة إليها ليبيا ومالي والنيجر، وقد نتج عن هذه القمة اتفاق يقصي العمل العسكري ويشدّد على الحلول السياسية ويوصي بوضع حد للتهميش الذي يعاني منه الطوارق.دبلوماسية نشيطة لحلّ أزمات ماليمن منطلق مبدأ حسن الجوار الإيجابي، قامت الجزائر بدور الوسيط الدبلوماسي لحل مشكلة الأزواد منذ 1991 بين "الحركة الشعبية لتحرير الأزواد" و«الجبهة العربية الإسلامية للأزواد" من أجل وقف العمليات المسلحة، في نفس الوقت قادت الجزائر دبلوماسية نشطة بين الطوارق وحكومتي مالي والنيجر، واحتضنت في هذا السياق العديد من اللقاءات وعمليات التهدئة، مثل اجتماع الجزائر العاصمة الأول من 29 إلى 30 ديسمبر 1991، اجتماع الجزائر الثاني من 22 إلى 30 جانفي 1994، وكذا الاجتماع الثالث من 15 إلى 25 مارس 1992، لقاء تمنراست من 16 إلى 20 أفريل 1994، لقاء الجزائر 10 إلى 15 ماي 1994 ثم جاء لقاء تمنراست من 27 إلى 30 جانفي 1994 الذي توج بالإعلان الرسمي عن تسوية النزاع في شمال مالي بتاريخ 26 مارس 1996.لكن النزاع عاد ليشتعل في العام 2006 بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية وعودة الجيش النظامي المالي للانتشار في الشمال وهو ما رفضته بعض مجموعات الطوارق التي قادت تمردا جديدا في ماي 2006وتعرضت مواقع عسكرية في كيدال ومناكا للهجوم .وبعد اشتداد النزاع قادت الجزائر وساطة على أعلى مستوى أشرف عليها الرئيس بوتفليقة شخصيا، وتوّجت بالتوقيع على اتفاق سلام بالجزائر في 04 جويلية 2006 تحت اسم "تحالف 23 ماي من أجل التغيير".وقد ركز هذا الاتفاق الذي رسمت خطوطه العريضة الجزائر على مقاربة إقرار السلم من خلال التنمية .سياسة النفس الطويل قضية تطبيق بنود اتفاق الجزائر، شهدت خلافات أخرى بين أطراف النزاع في مالي استدعت الدخول في مفاوضات جديدة برعاية الوسيط الجزائري دائما انتهت بالتوقيع في 20 فيفري 2007 بالجزائر على بروتوكول، ولكن تصلّب المواقف أدى إلى تجدد القتال في شهر مارس 2008، فقامت الجزائر مرة أخرى بجمع طرفي النزاع في اجتماعات تفاوضية دامت أربعة أيام من 24 إلى 27 جويلية 2008، انتهت بتوقيع اتفاق لتثبيت وقف القتال وتم إنشاء لجنة مختصة لمراقبة تنفيذ بنود الاتفاقات، تتكون من نحو مائتي عضو من الطرفين بالتساوي.ومنذ اندلاع الأزمة المالية الأخيرة في جانفي 2012 والتي كانت متبوعة بانقلاب عسكري في مارس من نفس السنة، قامت الجزائر- التي كانت دائما تقف على مسافة واحدة بين مختلف أطرافها- بعدة مساعي للتهدئةوإعادة بناء مؤسسات السلطة وعودة الأمن والاستقرار إلى الشمال.وآخر هذه الوساطات، الاجتماع الذي احتضنته الجزائر في سبتمبر الماضي وجمع حكومة باماكو وفصائل من الطوارق.دورها في ليبيا لإسكات طبول الحربالجزائر التي تتمتع بسياسة النفس الطويل، فلا تيأس من استئناف وساطاتها كلما أخفقت في تحقيق النتائج المرجوّة، تبني سياستها الخارجية على مقاربة الحوار والحلول السلمية لتجاوز كل الأزمات، لهذا نراها هذه الأيام وقد أخذت على عاتقها مهمة اطلاق حوار بين الإخوة الفرقاء في ليبيا، أولا لإخماد النار التي تحرق الليبيين منذ ثلاث سنواتوالحيلولة دون امتدادها إلى الجوار، ثم لسدّ الباب أمام التدخل العسكري الذي تروّج له فرنسا .والمهمة التي بادرت اليها الجزائر لا تبدو سهلة، بل على العكس تماما فهي معقّدة تعقّد الأزمة الليبية وقد تواجه عراقيل كثيرة يفرضها أطراف الصراع ومن يقف وراءهم .لكن مهما تكن النتائج فالعبرة في المبادرة، إذ لا يمكن لأحد أن يقف موقف المتفرّج والنار تلتهم أمن واستقرار ووحدة شعب شقيق.ثم وهو مهمّ أيضا لا يمكن للجزائر أن تبقى مكتوفة الأيدي وهي تسمع من يقرع طبول الحرب ليفرض تدخّلا عسكريا في ليبيا الجميع يتصوّر نتائجه الكارثية على ليبيا والمنطقة بأسرها.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 14/10/2014
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : فضيلة دفوس
المصدر : www.ech-chaab.net