وفي هذا السياق لا نطلب الرضى ولا نرجو القربى من غير العلي القدير، إذا نقلنا شهادة عيان، أليس "من يكتم الشهادة فإنه آثم قلبه" فقد حسم رئيس الجمهورية النقاش حول بعض قضايا الساعة قائلا: إني أعمل على توسيع قاعدة الديمقراطية، ولن يبيع أحد الجزائر وأنا هنا.إذا عدنا إلى ما يقال وينشر عن تركيبة المجلس ومستوى أدائه وعلاقاته بالهيئة التنفيذية، فمن المعروف أن في المجلس نواب يمثلون 27 حزبا من مختلف الحساسيات والتيارات وتتكون من مختلف الشرائح، الاجتماعية والمستويات التعليمية، إن القول بأن المجلس متكون من الأميين لا يستند إلى أي سبر أو إطلاع على بطاقية الأعضاء المحفوظة في أمانة المجلس، وفيها البيانات المطلوبة ومنها عدد الحاصلين على شهادات عليا ومهندسون وأساتذة في الطب ومحامون وخبراء ونقابيون عملوا في قطاعات المالية والصناعة والفلاحة والعلوم القانونية والاجتماعية والسياسية ومناضلون عاديون من مستويات أدنى، فالانخراط في حزب لا يتطلب فقط الشهادات العلمية، يتوزعون على مختلف الأطياف الممثلة في المجلس، وهؤلاء جميعا لا يراهم أحد على الرغم من أن الأغلبية منهم متفرغون للعمل النيابي التزاما بالقانون الذي حرصنا في المجلس على تطبيقه، وهو ما أُعجب به رئيس الجمعية الوطنية لبلد وراء البحر وعبّر عن ذلك أثناء زيارته إلى الجزائر وهو يحاول الاجتهاد في تطبيقه، فليست بلادنا من المقلدين للآخر في كل شيء.
وعلى أي حال فإن المجلس ليس أكاديمية للعلوم والفنون والآداب لا يدخله إلا من شاب قرناه في البحث والإبداع والابتكار، وكم عددهم في برلمانات العالم الثالث والثاني والأول؟
يشاع على الألسنة وبعض الصحف القول بأن في المجلس الشعبي حفافات وعاملات نظافة، وعلى افتراض وجود هذه الفئة في قبة المجلس فإن هذه ليست مأخذا، إنها في الحقيقة استعلاء طبقي، كي لا نقول عنصري كما كان الكولون المتجبرون يسمون كل مرأة جزائرية "فاطمة" (Fatma) بهدف الإذلال والاحتقار، إن ممثّلي الأحزاب - كل الأحزاب - في هذه العهدة البرلمانية السابعة هم عينات من المجتمع الجزائري في أبعاده الجغرافية المعروفة وخريطته السياسية ومستويات الدخل والثروة.
وفي النقطة الأخيرة فإن الثروة نفسها ليست مأخذا، والسؤال المشروع هو هل كانت كسبا مشروعا لا شبهة فيه أم لا؟ متى كان الفقر فضيلة؟ على الرغم من أنني أرى شخصيا أن الثروة توجد في القناعة والعفة التي تحفظ من الغرور والإغراء، وبالتالي فهي كنز لا يفنى، وعلى أي حال علينا جميعا أن نجعل من العمل قيمة عليا، وعلينا أن نجعل إتقان العمل أكبر تكريم للأفراد والجماعات والمرادف للوطنية بدل التسابق لتبادل التكريم وما يتبعه من موائد للأكل والشرب والهدايا والشهادات.
لقد تم رفع الأجور عدة مرات ولمختلف الأسلاك وأحيانا بأثر رجعي حتى 2008 ويقول البعض هل من مزيد؟ ومهما كانت مشروعية الزيادة في تعويضات النواب وقلت رأيي فيها وطبقته في أول شهر من العهدة على نفسي دون إشهار، أقول إن النواب في الغرفتين لا يحصلون على تعويضات وأجور تختلف عن غيرهم في بلاد العالم حسب بيان إتحاد البرلمان الدولي، وهذه عينة منها بالأورو دون التعويضات وهذا للعلم وللثقافة العامة لا غير، وهي كما يلي:
بوتسوانا 8000
الكونغو 9985
المغرب 2700
الأردن 3823
لبنان 5766
مصر 8000
اليونان 5393
فرنسا 7100
إسبانيا 4886
ولكن المشتغلين بالبحث عن الفرجة الفضائحية لا يهمهم سوى السبق في كيل التّهم وتلويث مؤسسات الدولة، والمجلس هدف سهل وارتداء رداء المحامي للدفاع عن الشعب أسهل، ماذا لو تعرضوا لفحص بالسكانر وسئلوا من أين لك هذا؟
إن تكرار كلمة "شكارة" عند بعض الحزبيين وبعض الإعلاميين وتعميمها على كل النواب توهم العاديين من الناس بأن كل عضو في المجلس يحمل على ظهره أكواما من الأوراق المالية لشراء الذمم والهمم وأن الذي يتهم هو وحده النظيف في جماعات كلها ملوثة بالرشوة والفساد، هل من المطلوب في ملف المترشح للبرلمان أن يقدم شهادة فقر؟ وهل هو مؤسسة لا يدخلها سوى حملة دكتوراه وقائمة من المؤلفات وهو ما لا تطلبه في البداية مختلف كليات ومعاهد الجامعة؟ وفيما يخص السلوك وخرق القانون، فهذا شأن المصالح المعنية والقضاء، وباستثناء الخطيئة الكبرى وهي العمالة لدولة أجنبية، فإن حصانة النائب مكفولة في أداء مهامه في التشريع والرقابة فقط، وما سوى ذلك فالنائب مثل غيره من المواطنين، وهو لا يحمل جواز سفر دبلوماسي عند السفر إلى الخارج، وحسب المادة 72 من القانون الداخلي فإنّ رفع الحصانة لا يكون إلا عندما يُودع طلب رفعها لدى المجلس من طرف وزير العدل، اطلعوا أيها السادة على القوانين قبل أن تتأبطوا شرّا وتضربوا خبط عشواء.
لا أدري لماذا لا تذاع ولا تنشر مداولات المجلس في جلساته داخل اللجان الإثني عشر المتخصصة في مختلف القطاعات، وهي في الغالب لصالح المؤسسة التشريعية والحكومة معا، وحتى جريدة المداولات وهي عبارة عن محاضر طبق الأصل لما يجري داخل المجلس، لا يطّلع عليها أحد، والأعجب أن بعض وسائط الاتصال بما فيها العمومية تختصر مناقشات حامية في تصريح لعضو في الحكومة يدافع فيه عن مبررات التصويت على المشروع المقدم وتغض الطّرف عن الاستجواب والاعتراض والنقد الذي يشارك فيه في بعض الجلسات حوالي مائة نائب من الأغلبية والمعارضة على حدّ سواء في جلسات المساءلة العامة أو مناقشة المشاريع، إن القطاعات الوزارية ليست إقطاعيات لأحد وتقييم أدائها ليس قضية شخصية إن المناقشة الحرة والإثراء والتنبيه إلى الأخطاء والنقائص مفيد للدولة كلها وليس هذا من باب الوعظ والإرشاد فقوة الدولة من مصداقية الهيئة التشريعية والعكس أيضا صحيح.
من الطبيعي أن تؤيد الأغلبية المتكونة من حزب جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي والمستقلين والمؤيدين لبرنامج رئيس الجمهورية مشاريع الهيئة التنفيذية، فهي حكومتها، ومن الطبيعي أكثر أن تعترض المعارضة وترفع صوتها داخل المجلس، وهي تتكون من تحالف الجزائر الخضراء وجبهة القوى الاشتراكية وحزب العمال والأحزاب الأخرى التي ليس لها مجموعات برلمانية، إذا اختارت أحد الموقفين، وهذا هو حال كل برلمانات العالم، وهذا هو حال المجلس في عهدته الحالية، ولا أعرف ولا أرغب في المقارنة مع سابقاتها، فثقافة الدولة تعني استمرارية المؤسسات وإذا كان من الضروري الإصلاح وتحسين الأداء فالمطلوب أن نذكر كل السابقين بخير.
الحقيقة أن المجلس ليس غرفة تسجيل وتسابق في رفع الأيدي والتصفيق كما يشاع، فلم يمنع أحد من التسجيل وأخذ الكلمة ولأكثر من نائب في الحزب الواحد والأسئلة الشفوية تكون مثل التعديلات باسم المجموعة البرلمانية وعشرة من النواب. وفي مستوى أشغال اللجان يمكن لكل عضو أن يقدم رأيه الموافق أو المعترض أو المطالب بحذف مادة أو تعديلها أو اقتراح غيرها، وتدعو اللجان للاستنارة أو الاستجواب من تراه ضروريا من المدراء والمسؤولين ومن الخبراء في المسائل المتعلقة بمشروع القانون وتعرض خلاصة الآراء والتعديلات المقترحة على الجلسة العامة وهذا إجراء عادي، وقد تقدم إلى لجان المجلس وجلساته العامة عدد كبير من الوزراء في قطاعات السيادة وغيرها وأكثر من مرة خلال هذه السنة نذكر منهم وزير العدل، وزير الداخلية، وزير الخارجية، وزير المالية، وزير التربية، وزير الطاقة ووزير السكن وشملت الأسئلة الشفوية والكتابية أربعة أخماس أعضاء الحكومة، أما الوزير الأول فهو المنسق لكل نشاطات الحكومة وقد ناقش المجلس أولوياته ومنهجية عمله مباشرة بعد تعيينه من قبل فخامة رئيس الجمهورية وحسب القانون الأساسي الأول للجمهورية فإنه ليس من حق البرلمان بغرفتيه تعيين أو إقالة أي مسؤول في الهيئة التنفيذية كما هو الحال في كل الأنظمة الرئاسية.
أما مسألة الحضور والغياب في جلسات المجلس فهي مسألة تخصّ الكتل البرلمانية كل على حده، وهو ظاهرة لا تخص غرفتنا فقد تشاهد على القنوات التلفزيونية أقل من ربع النواب في كثير من الجلسات في برلمانات أخرى، وقد اُضطر بعضها إلى الخصم من التعويضات والتحقق من تواجد النائب عن طريق الزر الإلكتروني (Pointage)، ولكن العديد يغادر الجلسات مباشرة بعد التسجيل لقضاء شؤونه الخاصة في عمله، أو دائرته النيابية، أو يقضي أغلب الوقت في مقهى ومقصف البرلمان، وهو ما أشار إليه عدد من رؤساء البرلمانات في اجتماعهم بمرسيليا في شهر مارس الماضي، وعلى الرغم من أن المشاركة لا تتوقف على إحصاء عددي في ديمقراطية ناشئة، فإننا نتساءل كيف يمكن أن تكون الجزائر استثناء في محيطها القريب والبعيد؟ وهل أن ما هناك دائما خير من هنا (Là-bas mieux qu'ici)؟
قد يحدث أحيانا أن يدرس مكتب المجلس اقتراحا من إحدى المجموعات البرلمانية لتنظيم يوم برلماني ويرى المكتب أن الموضوع في حاجة إلى تشاور مع القطاعات المعنية، وخاصة إذا تعلق الأمر بقضايا راهنة مثل الاحتجاجات في الجنوب أو الأوضاع في مالي أو مسألة الفساد والرشوة التي توجد ملفاتها بين أيدي العدالة وهي مؤسسة دستورية مستقلة وسيدة لا يتدخل المجلس في عملها.
إن الهيئة التشريعية مستقلة في اختصاصاتها ولكنها ليست منفصلة عن مؤسسات الدولة الأخرى، وهناك من المسائل ما يتطلب موقفا موحدا في الداخل وفي التعامل مع الخارج.
ظهر ذلك واضحا في موقف حزب مغاربي حضر مؤتمر جبهة القوى الاشتراكية مؤخرا ودافع في مداخلته عما يسمى "مغربية الصحراء وأقاليمنا الجنوبية" وسط احتجاج مناضلي جبهة القوى الاشتراكية، فالشعارات المعلنة تتضاءل أمام المصالح الحزبية ومصالح الدولة، ومن المعروف أن هذا الحزب له تاريخ نضالي مشهود وعرف أحد أبرز السياسيين المدافعين عن الحرية والديمقراطية في كل العالم الثالث، وتمّ اغتياله غدرا على يد مسؤولين كبار في تلك الدولة المغاربية.
في بلادنا تراكمات كثيرة من الاجتهادات فيها الصواب وفيها الخطأ، ينبغي أن نقيّمها في سياقها التاريخي المحلي والعالمي، وقد تفسح الساحة لجيل آخر لم يعرف محنة الاحتلال وبعيدا عن نصب الكمائن والبحث عن يد "الكاكي" والمخابر السرية المتداولة في بعض الأوساط، فلا وجود لطبقات العمر إلا في المجتمعات البدائية التي تفرض طقوس المرور (Rites de passage) من طبقة عمرية إلى أخرى والرغبة في إبعاد الأكبر سنا يعرف بعقدة أوديب في الأسطورة الإغريقية التي تدفع الإبن للتخلص من الأب للتفرد بالأم التي خصص لها سيغموند فرويد (S.Freud) دراسة رائعة بعنوان الطوطم والطابو (Totem and Tabou)، والملاحظ أن الآلة الإعلامية الأمريكية ركزت طوال الثمانينيات على شيخوخة قادة الكرملين، ولكن القليل من تحدث عن شيوخ البيت الأبيض ومنهم الرئيس والممثل السينمائي رونالد ريغن، وكبار القادة ومنهم من قارب التسعين وهذه المقارنة للفت الانتباه على المفارقة، وليس للدفاع عن طبقة من العمر فلم تكن أبدا نسبة مواليد ما قبل 1950 الأغلبية طيلة العقود الأربعة الأخيرة، حيث عرفت الجزائر تضاعف عدد السكان ثلاث مرات بين 1962 - 2002 بفعل ما يعرف بتضخم المواليد Baby Boom، كما أن هضبة العمر والحياة (espérance de vie) زادت منذ نهاية السبعينيات بسبب التحسن النسبي في معيشة السكان.
من حق النخب المفكرة والسياسية في الأحزاب وفعاليات المجتمع المدني من الشباب، ومنهم من عانى من أهوال حقبة التسعينيات، وبعضهم يستثمر فيها فقط، أن تطمح للصعود إلى أعلى مراتب الدولة وأن تطرح ما تريد من مشاريع داخل أحزابها وتنظيماتها وعلى الرأي العام الوطني في مناخ من الأمن والسلم وبلا خوف ولا تخويف والثقة في الحس السليم للشعب فكيف يسوس الشعب من لا يثق في الشعب؟ أما نسبة عدد المشاركين في الانتخابات، فإذا كانت متدنية فالسؤال الأول يطرح على الطبقة السياسية ومدى قدرة أحزابها على الإقناع والتجنيد، وفي بعض الحالات يكون اتهام الإدارة حجّة لمن لا حجة له.
إن موجات الاحتجاج الدورية وما يصحبها من تظاهرات غاضبة لها في كثير من الأحيان ما يبررها، والعجيب هو ألا تحدث، وذلك للأسباب التالية:
1 - مركزية الإدارة وتعقيداتها البيروقراطية الثقيلة وأداؤها البطيء والهزيل.
2 - ضعف الحوار بين الشركاء الاجتماعيين قبل حدوث الاحتجاجات ثم الإسراع إلى الحوار بعدها، ولكن كرجال مطافئ.
3 - قول بعض المسؤولين أن هذه القضية أو تلك هي مشكلة الجميع، أي لا أحد يجيب على الهاتف! وهذا قول هروبي أو ضعف في العمل المتناغم (Combiné) بين الشركاء والحيل الهروبية عن طريق التأجيل والتخلّص من المسؤولية برميها على الآخر (Passe à l'autre) وقائمة الحيل طويلة وأشبه بمغارة علي بابا.
4 - اعتبار العمل - توفر أم لم يتوفر - نوع من " الكُرفي" (Corvée) والحصول على مقابل (أجر) فهو واجب على أساس مغالطة المساواة البدائية (كلّنا أولاد تسعة) ومغالطة أخرى أخطر وهي توزيع الريع دون أيّ قيمة مضافة من الانتاج في السوق والقابل للتسويق والمنافسة في الخارج، بالإضافة إلى الاختلالات الفادحة في سلم الأجور وتزايد الفروق الشاسعة بينها، وإغفال تطبيق سلم الوظيفة العمومية على بعض الهيئات والمؤسسات مما سمح بالتبرّع بتعيينات في وظائف عليا أحيانا بلا كفاءة ولا استحقاق، فالمقصود بالتعيين هو الإرضاء بلا مساءلة عن المردود وهو أمر يثير عند الآخرين الدهشة والغضب، ويقلل من مصداقية الإدارة في كل مستوياتها.
5 - الاحتجاج العلني بمختلف الوسائل ظاهرة تاريخية ودائمة في المجتمع الجزائري في عهده النوميدي والاحتلال الروماني، حيث ظهر مذهب معادي للكنيسة روما الكهنونية (الدوناتية)، وفي العهد الإسلامي والعهد الإسلامي العثماني الذي عرف العديد من أشكال العصيان والعهد الكولونيالي الذي عرف سلسلة من الانتفاضات وأشكال المقاومة بما فيها التمرد الفردي المعروف عند الفرنسيين باسم عصاة الشرف (Les Bandits d'honneur) وبالتالي يمكن القول بأن الاحتجاجية هي طبع وطني (National Character).
في انتظار ما ستسفر عنه تعديلات وثيقة الدستور، وموعد أفريل 2014، فإننا منحازون إلى كل من يسعى قولا وعملا للحفاظ على أمن بلادنا ووحدة الوطن ورفاهية المجتمع، وفيما يخص صاحب هذه السطور وما قيل ويقال عنه، فإنه ملتزم على الدوام بما جاء في الآية الكريمة "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما".
الجزائر في 25 - 06 - 2013
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 15/07/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : محمد العربي ولد خليفة
المصدر : www.djazairnews.info