الجزائر

زمن التيه الجزائري



زمن التيه الجزائري
يخبرنا القرآن الكريم في سورة المائدة أن بني إسرائيل عوقبوا، نتيجة عصيانهم لأمر ربهم، بفترة من تاريخهم امتدت لأربعين سنة وسميت بفترة التيه، حيث تاهوا على وجوههم في المكان نفسه مشردين ومبوذين لا يعرفون أين يتجهون. وأعتقد أن الجزائر تمر منذ مدة ليست بالقصيرة بزمن التيه الجزائري، الذي ازداد حدة منذ أكثر من عقد ونصف العقد.إذا كان اللّه تعالى قد ابتلى بني إسرائيل بزمن التيه لمدة أربعين سنة في الصحراء نكالا لهم على كفرهم وعلى عصيانهم لأمر ربهم وقتلهم للنبيين بغير حق، فإن زمن التيه الجزائري فرضه علينا النظام الحالي بجهل رموزه وإصرارهم على البقاء في الحكم واعتمادهم على الرداءة ورفضهم للرأي الآخر وتفضيلهم للمتزلفين والفسدة والمفسدين، حتى لا أقدم أوصافا وأسماء أخرى.ألسنا في زمن التيه والجزائر تحتل المراكز الأخيرة على مستوى كل المؤشرات العالمية، على الرغم مما حباها اللّه به من خيرات مادية وبشرية، وعلى الرغم من موقعها الممتاز وحيوية شعبها وتاريخها الحافل بالبطولات والأمجاد. ألسنا في زمن التيه ومنظومتنا التربوية يُعبث بها، وعقول أبنائنا تستباح من قِبل كل من هبّ ودبّ من المنسلخين المتنكرين لتاريخنا وقيمنا وخصوصياتنا.ألسنا في زمن التيه واقتصادنا ومؤسساتنا الإنتاجية توضع في خدمة الاقتصاديات الغربية الفاعلة، لاسيما الاقتصاد الفرنسي، لا لشيء إلا لغاية في نفس يعقوب. ألسنا في زمن التيه ونحن نقبل بنظام جعلنا نعجز حتى أن نوفر غذاءنا بأنفسنا ومن أرضنا، رغم شساعتها وتنوعها وخصوبتها وغناها. ألسنا في زمن التيه ونحن نستقدم العمالة من الصين لبناء مساكننا وشبابنا يعاني من البطالة والضياع والمخدرات.ألسنا في زمن التيه ونحن نرى بأم أعيننا الرداءة مجسدة في مؤسسات الدولة، ونرى بأم أعيننا الفسدة والمفسدين يولون قبضتهم على بعض مفاصل وأجهزة الدولة إلى حد القضاء على خيرة إطاراتنا وتهجيرها أو طردها مثل العملة الرديئة التي تطرد العمل الجيدة، أو حتى التسبب في قتلها باستعمال وسائل مافيوية. ألسنا في زمن التيه وقد أصبح المطبلون والمزرنجون والمنبطحون والمسبوقون قضائيا أسياد القوم ينظّرون ويشككون فيما تبقى من مؤسسات الدولة ورجالاتها.ألسنا في زمن التيه وقد عجزنا حتى أن نضع شبكة موضوعية للأجور، تكون صالحة لكل فئات المجتمع. ألسنا في زمن التيه المطبق وقد أصبحت المنجزات الفذة تتمثل في تسخير ثروة المحروقات البائدة لاستيراد كل شاردة وواردة ونبذ المنتوج الوطني والقضاء على ما تبقى من المؤسسات الإنتاجية وغلقها أو بيعها بالدينار الرمزي للفسدة والمفسدين المسؤولين عن الوضعية الراهنة التي آلت إليها الجزائر.ألسنا في زمن التيه المطبق ونحن نرى في تغيير نفس “المسامر المصددين” يتبادلون المسؤوليات وهم الذين سبق لهم وأن التزموا، في الكثير من المرات، بأنهم سيقضون على تبعية الاقتصاد الجزائري للمحروقات، وهاهي التبعية تزداد أكثر من أي وقت مضى، وهاهم يظلون يتنقلون من منصب لآخر، ومن مسؤولية لأخرى، وكأن الجزائر أصبحت عاقر عن إنجاب غيرهم.ألسنا فعلا في زمن التيه وقد بذّرنا أكثر من 700 مليار دولار في ظرف 15 سنة، من دون أن نرى لها أثرا على تغيير حياة المواطن الجزائري البسيط، ومن دون أن نرى لها أثرا في مجال التنمية المستدامة. ألسنا في زمن التيه المطبق والضلال المحكم ونحن نصدق، ببله وبغباء، حكاية الإصلاحات، ونقبل أن نحكم بالرسائل المقروءة في الوقت الذي وصلت فيه الأزمة في منطقة غالية على قلوبنا إلى أوجها في غرداية، حيث أصبح الطفل الشعانبي لا يمكنه أن يجلس على الطاولة نفسها مع الطفل المزابي في السنة الأولى من المدرسة الابتدائية، لتكريس القطيعة وغرسها في النشء الجديد، ولا من مبالٍ ولا من مهتم ولا من سائل، وكأن الأزمة لا تعنينا ولا تهمنا.ألسنا في زمن التيه الجزائري ونحن نرى عدم قدرة حكامنا الميامين على التنبؤ بأزمة انهيار أسعار النفط الحالية التي ستقضي على الأخضر واليابس، ونرى بأن أعيننا مدى عجزهم عن تصور وإيجاد بدائل أخرى للمحروقات، لأنهم تعودوا على الحلول السهلة وتفضيل اقتصاد البازار وتوزيع الريع لشراء السلم الاجتماعي من أجل البقاء في السلطة، على حساب حاضرنا ومستقبل أبنائنا.ألسنا في زمن التيه الجزائري وفن الحكامة في الجزائر يختزل إلى أسوأ صورة، حيث أصبح حكمنا الميامين يصرحون، في الوقت نفسه، بالشيء وبضده، فتارة يؤكدون أننا في منأى عن الأزمة وأخرى يدقون ناقوس الخطر ويطالبون بشد الأحزمة دون استيعابهم لدروس الماضي القريب، ومن دون أدنى اهتمام بمصير الأمة ومستقبلها وتطلعاتها المشروعة. ألسنا في زمن التيه الجزائري المطبق ونحن نرى بأم أعيننا انتفاض سكان الجنوب ضد مسألة استغلال الغاز الصخري ودرجة الاستخفاف الذي يوليه مسؤولونا الميامين لحل المسألة، ولجوئهم إلى المسكّنات البسيطة والحلول الترقيعية المتمثلة في إنشاء الولايات المنتدبة لحل معضلة كبيرة وخطيرة قد تعصف بما تبقى من وحدتنا الوطنية.ألسنا في زمن التيه والنظام الحالي يعلن أن الأمر بالنسبة للغاز الصخري لم يتجاوز مرحلة التنقيب والاستكشاف، في حين أن صاحب القرار المتمثل في الطرف الفرنسي يؤكد، على لسان شركة توتال، أن الغاز الصخري في الجزائر دخل فعلا مرحلة الاستغلال، بينما صاحب السيادة المفترض (وهو شعيب لخديم) لا يدري ولا يستشار ولا يعلم، وبرلماننا منشغل بالمطالبة بجواز السفر الدبلوماسي وبرفع أجور النواب الميامين على مجهودات رفع الأيدي بالمصادقة على كل المشاريع.ألسنا في زمن التيه وأمورنا الهامة تسير في غياب أو تجميد أهم المؤسسات الدستورية، ومجلس الوزراء أصبح لا يجتمع إلا نادرا أو للديكور، والقرارات المصيرية تتخذ في مؤسسات وأماكن غير دستورية، ولا من سائل ولا من مبال. ألسنا في زمن التيه المطبق والضياع التام وبعض مؤسساتنا الهامة يسيرها “من يعرف القراءة والكتابة”، في الوقت الذي تسير فيه الأمور عند غياب من قِبل القيادات الشابة من أصحاب العلم والمعرفة والخبرة.ألسنا في زمن التيه المطبق والظلام الدامس والضلال التام ومسؤولونا الميامين لا يدرون أن المعضلة الكبيرة المطروحة اليوم في الجزائر هي ضرورة التعجيل بحل مشكل نظام الحكم وتزويده بالشرعية المطلوبة والكفاءة التامة ونظافة اليد والقيادة الشابة، من أجل الشروع في إعادة بناء كل مؤسسات الدولة قبل فوات الأوان.وفي الختام، أليس الشعب الجزائري كله يمر بزمن التيه المطبق، ولا سيما النخب التي ما فتأت بصمتها تمدد في عمر زمن التيه، ولا تسعى إلى المطالبة بوسائل حضارية برفع الغبن عن شعبها، والمطالبة بالتغيير السلمي والسلس الذي يخرجنا من زمن التيه إلى زمن الاستغناء عن “برلمان الحفافات” على حد تعبير الأستاذ سعد بوعقبة.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)