الجزائر

زتيلي تحاضر عن نزعة الأنسنة في فكر أركون



قدّمت الدكتورة خديجة زتيلي ندوة تحت عنوان "نزعة الأنسنة في فكر محمد أركون، وأهميتها في الانتقال من الإسلاميات التقليدية إلى الإسلاميات التطبيقية"، ضمن أشغال اليوم الدراسي "محمد أركون مسيرة فكرية، المنابع، المحددات، والتجليات" الذي نظمته المكتبة الرئيسة للمطالعة العمومية "سليمان بركات" بعنابة، مؤخرا، بالتنسيق مع الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية.جاء في ندوة الدكتورة خديجة زتيلي، أن منهجية الاستشراق الموروثة عن القرن 19، هيمنت على طريقة تناول الفكر العربي والإسلامي في البحوث والدراسات الأكاديمية. وكان محمد أركون (1928 – 2010) يراقب، في نهاية ستينيات القرن الماضي، إصرار أساتذته في جامعة السوربون، على التقيد بتلك المنهجية الصارمة، التي كان يراها ضيقة الأفق، متجنية على التاريخ، ومنحازة إلى قيم المركزية الأوروبية، وهو ما دفعه، لاحقا، إلى رفض صيغة هذا الاستشراق في ظل تنامي تيارات فكرية نقدية حديثة خارج أسوار الجامعة، كانت مضادة لأفكار أساتذته في السوربون، التي تزعّمها ليفي شتراوس، وميشال فوكو، ورولان بارت، وغاستون باشلار وغيرهم.
استنجاد بالمنهج التاريخيّ
أضافت زتيلي أن ورقتها البحثية تضيئ بعض جوانب هذه الرحلة الفكرية في سياق نقد الاستشراق، والكشف عن مذهب إنساني بالغ الأهمية في تراثنا، تم محاصرته من طرف الغرب من جهة، ومن لدن الأصوليات الدينية التي صادرت العقل وأجهزت عليه من جهة أخرى، فضلا عن الالتفات إلى المسوغات الفكرية والمنهجية للانتقال من الإسلاميات التقليدية إلى الإسلاميات التطبيقية. وتابعت: "توسلت الإسلاميات التقليدية التي تعني موقف الاستشراق من الثقافة العربية والإسلامية، بالمنهج "الفيلولوجي"، وهو المنهج الذي يرفض أركون تطبيقه على دراسة التراث العربي والإسلامي، فالدارس الفيلولوجي في سياق النص الأركوني، ليس جزءا مما يدرس، ومن ثم لا يشكل موضوعه همّا حضاريا، بل هما أكاديميا على أكثر تقدير، ويُسقط من اهتمامه البعد الاجتماعي التاريخي المعيش، وتعقيداته"، مضيفة: "وبسبب تقصيره في إدراك الحقائق الإنسانية يستنجد أركون بالمنهج "التاريخي"، الذي دشنته "مدرسة الحوليات الفرنسية" في القرن العشرين على يد لوسيان لو فيبر، وهنري هاوزر ومارك بلوخ".
ويسعى هذا المنهج - حسب الدكتورة - إلى دراسة النصوص في حركيّتها التاريخية من حيث تفاعل المتلقي مع مُقتضيات النص، فيكون بذلك أكثر ملاءمة لدراسة التراث العربي الإسلامي، وفهم حامل هذا التراث، ومقاربة الظواهر التراثية مقاربة تستند إلى علم التاريخ، وعلم الاقتصاد، والسياسة، واللغات، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم اجتماع الأديان، وتاريخ الأديان، وعلم الانثروبولوجيا، وعلم اللغة والأسطورة، من أجل إعادة قراءة التاريخ واللامفكر فيه والمسكوت عنه قراءة موضوعية، من شأنها نقل الدراسة من حقل الإسلاميات التقليدية إلى الإسلاميات التطبيقية. وقالت الدكتورة إن أركون يعود بنا في "مشروع الأنسنة المبكر في الثقافة العربية والإسلامية الكلاسيكية"، إلى القرن الرابع هجري/العاشر ميلادي، إلى زمن التوحيدي ومسكويه ومن جايلهم، عندما ثار هؤلاء باسم الإنسان ومن أجله، مسجلين، بذلك، موقفا فكريا حداثيا قبل الحداثة الغربية نفسها، فقد كشفوا عن مواقف نقدية في مناظراتهم ومجالسهم، كتلك التي كان يعقدها التوحيدي، ويشترك فيها كبار العلماء والساسة والمثقفين.
..حين يُقفل باب الاجتهاد ويُصادَر العقل
وأضافت زتيلي: "حصل الموقف الإنساني مبكرا في الساحة الإسلامية، وازدهرت العقلانية، وتلاقحت الثقافة العربية مع الثقافات الأخرى. وتُرجمت أعمال أفلاطون وأرسطو وغيرها إلى العربية، عن طريق السُّريان والمسيحيين والعرب. وظهرت المعاجم، وازدهرت اللغة العربية علما وفكرا وفنا وأدبا وشعرا. وكان المثقفون ورجال العلم والأدب يتحدثون بها، وينشرون الفكر والمعرفة بواسطتها في مدن عريقة، مثل بغداد وأصفهان وشيراز والقاهرة والقيروان والمهدية وفاس وقرطبة، فتجلت النزعة الإنسية كنزعة كونية، وكان على أوروبا أن تنتظر إلى غاية حلول القرن السادس عشر لكي تهُبّ عليها رياح الحداثة.
غير أن إحلال العقل في الدين والعلم والحياة كما هي الحال عند الجاحظ والزمخشري والقاضي عبد الجبار ومن لفّ لفّهم، سرعان ما ولّى أدراجه إلى الوراء، وأُغلق باب النقد والاجتهاد، وتم مضايقة المعتزلة في القرن الخامس ه/ الحادي عشر ميلادي. واستُبيح سفك دمهم. وكانت النتائج تلك بمثابة انحرافات أسطورية في التراث الإسلامي، كما يصفها أركون في كتابه "نزعة الأنسنة في الفكر العربي". وقالت: "حين يُقفل باب الاجتهاد ويُصادر العقل يُفتح المجال واسعا لاتهام الناس بالزندقة والتجديف والكُفر والردّة متى جادلوا في القضايا الفكرية والدينية. وتُدار الأمور، عندئذ، بحد السيف لا بالمنطق والعقل. والنتيجة انتكاسة نزعة الأنسنة التي تم تصفيتها بتراجع الأعمال الفلسفية والعقلانية، التي عرفت قمة ازدهارها في القرنين الثالث والرابع هجري".
وتساءلت الدكتورة: "ما الذي يبتغيه أركون من إثارة موضوع الأنسنة؟". وأجابت: "لا شك أنه يفعل ذلك لإنصاف التاريخ الإسلامي والفترة الذهبية منه، التي كانت مرحلة استنارة، وبهدف نقد العقل الإسلامي الحديث والمعاصر، الذي لم يخرج بعد من مآزقه وانسداداته التاريخية". وعطفا عما قيل، فإن جهود أركون تنصبّ في مقاومة الظاهرة الأصولية لا الظاهرة الدينية. وتتجه نحو محاربة الجهل المقدس، الذي أصبح مع مرور الوقت، مؤسسا وبُنيويا. إن الانتقال من الإسلاميات التقليدية إلى الإسلاميات التطبيقية يقتضي مواجهة الذات في الماضي والحاضر. كما يتطلب عدم إدارة الظهر لمكتسبات العصر الحديث. ويستدعي، من دون شك، تفكيك الانغلاقات الفكرية والسياجات الدوجماطية المغلقة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)