الجزائر

رمز إفريقيا في كل العصور (6).. مانديلا والجزائر..



رمز إفريقيا في كل العصور (6).. مانديلا والجزائر..
أ مانديلا وحركات التحرر في الستينيات:
إن سفر مانديلا لأول مرة خارج جنوب إفريقيا للمشاركة في مؤتمر الحركة القومية لتحرير إفريقيا، كان يهدف بطريقة أو أخرى لتحقيق "الدعم السياسي والمالي" لقواته العسكرية الجديدة، فشعر لأول مرة في تانجانيقا سابقا وتانزانيا حاليا بأن عقله وشخصيته وليس لون بشرته هو العامل الأساسي في الحكم عليه، وأدرك دور صديقه "أوليفر تامبو" في تأسيس مكاتب للحزب الوطني الإفريقي في غانا، ومصر وتانزانيا وإنجلترا، "فقد كان بحق خير سفير للحزب خارج جنوب إفريقيا".
لقد كانت الرحلة طويلة ومحفوفة بالمخاطر ولكن أيضا كانت فرصة ليراجع ذاته التي صارت فريسة للتفرقة العنصرية لأنه عندما توقف بالخرطوم لينتقل لطائرة تابعة الخطوط الجوية الإثيوبية اكتشف بأن قائدها أسود، وكان يعتقد بأن هذه المهمة يختص بها الإنسان الأبيض فقط. وبعد اختتام أشغال المؤتمر انتقل مانديلا إلى مصر وزار متحفها ليس بدافع المتعة بل لإيمانه "بضرورة أن يتسلح الإفريقيون بالمعلومات والأدلة لدحض مزاعم البيض الباطلة بأن الإفريقيين لا حضارة لهم ولا تاريخ يقارن بما لدى الغرب"، وشاهد فيها "برامج التحول الاقتصادي الإشتراكية التي وضعها الرئيس جمال عبد الناصر، و "هي الإصلاحات والإنجازات بعينها التي كنا نأمل أن تتحقق يوما ما في جنوب إفريقيا" على حد تعبيره. ثم انتقل إلى تونس فالتقى وزير دفاعها ثم الرئيس الحبيب بورقيبة الذي تجاوب مع قضيته وعرض عليه "تسهيلات للتدريب العسكري وخمسة آلاف جنيه استرليني لاقتناء الأسلحة".
وبعدها انتقل إلى الرباط بالمغرب باعتبارها "ملتقى المناضلين وحركات التحرير من كل أنحاء القارة الإفريقية، إذ التقينا بها مناضلين من الموزنبيق وانغولا والجزائر وجزر الرأس الأخضر. وكانت المقر الرئيسي لجيش التحرير الجزائري". واستقبله رئيس البعثة الجزائرية الدكتور مصطفى الذي حدثه عن "تاريخ المقاومة الجزائرية ضد الفرنسيين"، ولأن الوضع في الجزائر أقرب ما يكون لوضع جنوب إفريقيا، فإن التواصل النضالي جعلهم يواجهوا "مستوطنين أجانب يتحكمون في مصير أغلبية من السكان الأصليين". وبعد ثلاثة أيام ذهب مانديلا إلى "مدينة وجدة الصحرواية على الحدود الجزائرية وهي المركز الرئيسي للجيش الجزائري بالمغرب"، حيث زار وحدة عسكرية على الجبهة، وتمكن من استخدام المنظار من رؤية الجنود الفرنسيين في الجانب الآخر من الحدود وأقر بأنه تخيل بأنه يراقب جنود قوات الدفاع التابعة لحكومة جنوب إفريقيا"، بل وشارك ضيفا في استعراض عسكري على شرف أحمد بن بيلا.
وفي هذا السياق الثوري يقارن مانديلا بين الاستعراض العسكري الذي شهده أثناء انعقاد مؤتمر الحركة القومية لتحرير إفريقيا باثيوبيا بالاستعراض الجزائري قائلا: "ظهر في الاستعراض عتاة المقاتلين بالعمائم والأحذية الصحراوية ممن قضوا سنوات طويلة في الكفاح المسلح. كانوا يحملون أسلحتهم التي يقاتلون بها من خناجر وبنادق وفؤوس ورماح. وظهر من بينهم شبان يحملون أسلحة حديثة من مدافع مضادة للدبابات وأخرى مضادة للطائرات، ولكن حتى هؤلاء لم يكونوا يمشون بأناقة الجنود الأثيوبيين ودقتهم. إنهم جنود قوة فدائية خاضوا نيران المعارك واعتنوا بأساليب الحرب أكثر من عنايتهم بالملابس والاستعراضات الفاخرة، وكان ذلك سر فوزهم. ورغم إعجابي بالجنود الأثيوبيين في أديسا بابا أحسست في قرارة نفسي بأن القوة التي نحن بصدد إنشائها أقرب للقوة التي شاهدتها في وجدة، وتمنيت أن يقاتل جنودها بالبسالة التي قاتل بها هؤلاء الجنود". ولكن هذا الاستلهام الثوري لم يمنع مانديلا مرة أخرى من مراجعة للذات عندما تقدم السوداني "وكان أسودا كسواد الليل" في العرض العسكري فوقف يصفق له ويهتف به، فانتبه بأنه قام بذلك لأن السوداني رجل أسود وكأن قوة الشعورالقومي والإفريقي فعلت فعلتها مرة أخرى، لأن الجزائري المدعو السوداني كان "مقاتلا بارعا ويقال إنه أسر بمفرده فرقة كاملة من الجيش الفرنسي"، إلا أن مانديلا هتف له بسبب لونه وليس لبطولته.
بعدها انتقل مانديلا إلى باماكو عاصمة مالي ثم إلى غينيا وبعدها إلى سيراليون، حيث التقى الرئيس تايمان الذي دعمه بمصاريف لشخصه وبخمسة آلاف دولار لبرنامج التسليح والتدريب ثم انتقل إلى غانا، حيث التقى من جديد صديقه أوليفر ليقررا زيارة غينيا ومقابلة الرئيس أحمد سيكوتوري الذي دعمهما أيضا ثم انتقلا إلى السنيغال والتقيا بالرئيس ليوبولد سينغور الذي اكتفى بتزويد مانديلا بجواز سفر ديبلوماسي وتكفل بثمن تذاكرالسفر من دكار إلى لندن التي التقى بها مدير جريدة (الأوبزيرفر) التي تظهر في تقاريرها ميلا نحو الحزب القومي الإفريقي، وتحدث إلى شخصيات سياسية كالنائب العمالي دينيس هيلي وزعيم حزب العمال هيو غايتسكيل وزعيم حزب الأحرار جو غريموند. وبعد هذه الرحلات سيعود مانديلا إلى أديسا بابا ليقضي ستة أشهر في التدريب العسكري في ضاحية "كولفي" المقر الرئيسي لكتيبة مكافحة الشغب الأثيوبية حتى صار يفكر كالجندي "وهو أسلوب يختلف اختلافا تاما عن أسلوب تفكير الرجل السياسي"، ولكن بعد ثمانية أسابيع وصلته برقية من الحزب يطلب فيها عودته لأن النضال المسلح بدأ يتصاعد و "أصبح من الواجب وجود قائد حركة (أمكا) في الساحة".
ب "أطلقوا سراح مانديلا":
إنه شعار الحزب الوطني الإفريقي لحملته من أجل تحرير مانديلا بعد اعتقاله وبداية محاكمته يوم 15 أكتوبر 1962 وهو الذي ظهر على جدران المباني بعد تنظيم الاحتجاجات في جميع أرجاء جنوب إفريقيا، بل وسينتشر في جميع أنحاء المعمورة لمناهضة العنصرية. لقد تم توقيف مانديلا في 5 أوت 1962 ووجهت له تهم "تحريض العمال الإفريقيين على الإضراب ومغادرة البلاد بدون وثائق سفر صحيحة"، فارتاح لهذه الوضعية لأن الدولة لا تملك أدلة تربطه بحركة (أمكا) وإلا وجهت له تهما أخطر كالخيانة أو التخريب.
وفي قاعة المحكمة اختار مانديلا الظهور "بملابس الكوسا التقليدية المصنوعة من جلد النمر بدلا من البذلة وربطة العنق. هب الحاضرون وقوفا رافعين قبضاتهم في الهواء بالتحية الإفريقية المعهودة: ‘'أمندالا.. وانغاويتو أي القوة والقوة لنا''.. وظهرت "ويني" هي الأخرى بغطاء الرأس التقليدي وثوب الكوسا المتدلي إلى الكعبين". إنها رمزية واعية لكون مانديلا "رجلا إفريقيا أسودا يحاكم في محكمة الرجل الأبيض"، لأن الثياب في هذه الحالة تصنع اللحظة الوجودية لثقافة الإنسان وليس كما هو شائع في المثل القائل بأنها لا تنشىء الراهب، بدليل أن سلطة السجن طلبت منه عدم الظهور به، "ولكن السلطات سمحت لي بارتداء ذلك الزي في المحكمة فقط ولم تسمح لي بارتدائه خارجها خوفا من أن يثير ذلك حماس بقية السجناء". وبعد هذا الاحتجاج فضل المحامي أن يدافع عن نفسه ليعبر عن طموحات الشعب الإفريقي، فغيّر مجريات المحاكمة من وقائع غير قانونية إلى مطالب سياسية مشروعة لأنه من المستحيل تحقيق العدالة في محكمة يرأسها قاضي أبيض وعليه طالب بتنحيته لأنه مانديلا غير ملتزم أخلاقيا بالامتثال لقوانين صادرة عن برلمان لا يملك حق التمثيل فيه. فقد ذكر في كلمته: "ماهو السر في مثولي أمام هذه المحكمة التي يرأسها قاضي أبيض، ويقوم بالإدعاء فيها وكيل نيابة أبيض، ويحرسني فيها حراس بيض؟ هل يستطيع أي إنسان جاد ومنصف أن يدعي بأن العدالة تتحقق في جو من هذا القبيل؟". وأثناء هذه المحاكمة قامت أعمال تخريب نفذت احتجاجا عليها واحتفاء بقرار الأمم المتحدة بفرض عقوبات على جنوب إفريقيا، وقبل إصدار الحكم طلب من مانديلا الحديث فاختار التصريح السياسي الذي يوضح الأسباب والدوافع التي جعلته يختار هذا الطريق، باعتباره أساس وعيه السياسي الذي يمثل بذور الديمقراطية الثورية في المجتمع الإفريقي "التي لا يعيش في ظلها عبدا أو مستبعدا، ويختفي في كنفها الفقر والخوف والحاجة".
وبعدها ذكر مانديلا بشيء من التفصيل المناسبات التي لا حصر لها التي لجأت فيها الحكومة إلى القانون للتنغيص على حياته وعرقلة مهنته وعمله السياسي بالحظر والتقييد والمحاكمات، وبيّن الصعوبات التي واجهها كمحام في التوفيق بين الإلتزام بالقانون وإرضاء ضميره الشخصي، "وهذا الصراع لا يوجد في جنوب إفريقيا وحدها، فهو ينشأ لدى كل ضمير وعقل وتفكير ونخوة في كل مكان. ففي بريطانيا حديثا حوكم وسجن رجل من علية القوم براتراند راسل وهو من أكبر فلاسفة الغرب المعاصرين للأسباب نفسها التي أقف اليوم أمامكم هنا بسببها، وهي إرضاؤه لضميره رغم أنف القانون احتجاجا على السياسة التي تتبعها الحكومة بشأن الأسلحة النووية، لم يجد أمامه من خيار إلا مخالفة القانون ومواجهة ما يترتب على ذلك من تبعات. وهكذا حالي أنا، وحال كثيرين غيري من الإفريقيين في هذا البلد". وفي الأخير أخبر المحكمة بأن الحكم الذي ستصدره في حقه مهما كان لن يغير من حبه للنضال، لأن بغضه للأوضاع المزرية التي يعاني منها أبناء شعبه خارج السجن، أشد من خوفه من الأوضاع السيئة التي سيلقاها داخل السجن.
جامعة وهران


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)