الجزائر - A la une


..هؤلاء هم أنفسهم ينتجون الرقابات وقوانين المنع وطقوس المبايعة لما هو شاذ أو غير ديموقراطي أو مضاد للهيئة الاجتماعية والأعراف العامة وآدابهم، ويكفي ذلك للقول إنهم قد انتحلوا، أو اختلسوا أو صادروا أو ماطلوا أو تذاكوا مع نصوص غيرهم وفتحوا على أنفسهم مداخل الريبة والظنون.
. حد دقيق جدا، رفيع جدا كقشرة برتقالة تعتقت، لا يكاد يفصل ولا يكاد يبين بين ما يجب أن ينقرأ وما لا يجب، بين ما يمكن تداوله والتداول عليه وبين ما لا يمكن حتى تصفح فهارسه أو التلصص على مضامينه، يتقدم النص المكتوب في العالم العربي خجلا يتوارى، منكمشا، مصعرا خده، ثم تأتي اللوائح والمرجعيات كي تعقب، أو تؤول أو تسمح، بين النص واللائحة، علاقة باطنية، علاقة عذاب وشقاءات، علاقة قط يرصد فأرة المنزل المتسللة، علاقة حب وخرمشة بالأصابع وبالأرجل، استثناء لم يستطع الرقيب أن يمسك بأسرار عمله وتفاصيله، فالنص المكتوب قادر على المناورات والتحليق أكثر لكن مكاتيب العرب هي الأخرى غير متمرنة على إرباك الجزئي والانسحاب التكتيكي وتقدير المخاطر، فالعالم العربي جانح نحو يساره دائما، نحو آخر يساره أو جانح نحو يمين اليمين ولا يتقن فن اللعبة من الداخل، طبعا الاستثناءات كانت تحضر حتى وإن لم تسد، بل تفرق شملا وتطرح جدالا وتخطب ودا لا يستحق وترتكس براية أو بدون راية..
تنقسم الكتابة على قسمين، قسم يلعب فوق الطاولة، متحرر عالي النباهة، غير مبالٍ، ولا يعرف نظرية التكيف مع المسموح، قسم ثانٍ، غشاش، مخاتل، هاوي تدويخ، أو فهلوي، شاطر، يفري فريه كعبقري، يقول كلام يرضي الرقيب ومع الجمهور له السلامة والحماية من قطاع الطرق.
ثالثة الثلاثة في العملية كلها، أن الكاتب فيما يقول مسكون من داخله بعفاريت صامتة من المس، إنه مهجوس، مرصود، مراقب، متابع، يخشى الكاتب أن يلاعب قوى الأمن التي تحت قلبه أو لسانه أو عقله، الحاصل أن الكسب تحقق والمهمة انتهت فمن يشرف على اللائحة لم يزد على النص غير جرة قلم بالأحمر.. “هذا النص لا ملاحظة عليه"...
ثالثة الثلاثة في العملية كلها أيضا، أن الرقيب لا يبدو سعيدا، عمله يتضمن المحدودية، له حراك ملتوي، مشية عرجاء، وقلم أحمر لا يستطيع أن يخاتل، أن يكتب نصا آخر يحذف ما حذفه، يؤشر فقط بالأحمر، هذا ما عليه أن يؤديه، ولذلك اشتهرت النصوص الممنوعة أكثر وعاشت أكثر، وعاش على خبزها ونبيذها كما على لحمها وبصلها ناشرون كثيرون، وأهل نقد وتأويل، ومناصصون وأدعياء وكتبة صغار ورقباء، إن الكتب الجيدة والنافعة ظلت هي أيضا مهددة، مروعة، فهي ليست أصولية، طائفية، اتنولوجية، انقسامية، ادعائية، وليست خلاعية، بورنوغرافية إباحية، تستفز فاحشة المقص أو الخنجر أو المسدس وحتى الدبابة.
إن فكرة “الكتاب النافع" يجب أن يعبر دون حدود محفورة في ذهن المتلقي الجيد، ولا يعني أن الغوغاء يقدرون على التمييز إذا قمنا وشرحنا لهم ماهية عمل أدبي سامي، أو معرفة تتضمن حقائق، أو نص ديني ثابت، قطعي، لا اجتهاد فيه وهكذا دائما تصير المراوحة والسكونية، الكاتب هناك يكتب وينتظر والرقيب يريق لعابه، أحمره بين أصبعيه وعلى عينه الشرر الكبير والخير العام..
فتش في المحرمات، في الأقنوم الثالوثي، وستجد ساحة لمعركة ناشبة، كبريت يولع في كل الجنبات، واللهيب المقدس هو عنوان وشارة..
نحن العرب لنا قصة طويلة، انقلابية، مضحكة أيضا في مقارباتنا مع المسموح ومع اللا، كلما تجرأ النص أكثر، تاه أكثر، لم يعرف ما الذي يريده، فإن الحرية التي يمجدها كتابنا ويتهدهدون بشراشفها البيضاء، حرية لا يستطيعون أن يكونونها ولا أن يمثلوها ويتمثلوا نظامها وقوانينها، يقودون معركة من أجل سكب القهوة السوداء على أحذيتهم وعلى أحذية غيرهم، فإذا قدرت وفكرت أنا كما يفكر ويقدر غيري وجدت البون الشاسع ومقدار التفاصل كبير بين النصوص ومضامينها وبين كتابها وسلوكهم الجامح هؤلاء الذين طالما احتجوا على المقص أو الحذف أو التعمية أو ما إلى هنالك من أشكال السطو على المكتوب وحضارة المكتوب..
هؤلاء هم أنفسهم ينتجون الرقابات وقوانين المنع وطقوس المبايعة لما هو شاذ أو غير ديموقراطي أو مضاد للهيئة الاجتماعية والأعراف العامة وآدابهم، ويكفي ذلك للقول إنهم قد انتحلوا، أو اختلسوا أو صادروا أو ماطلوا أو تذاكوا مع نصوص غيرهم وفتحوا على أنفسهم مداخل الريبة والظنون.
إنه هو بعينه باطل الأباطيل يحدث بين الكتاب وما بين نصوصهم من إلغاءات وإهانات وإخفاءات وملاحقات تصل إلى اليتم وتمر بالتشريد وقد تمر بالاعتقال الرمزي لكتب نافعة جيدة، غير امبريالية، وتطرح أسئلة جديدة وحيرة مشروعة وهنا الأخلاقيات والديونتولوجيا “déontolgie" لا تكون مع الرقيب ولوائحه فهو يمثل الخير العام، الرسمي، الدائم، أو المؤقت مع تعرضه للزلل أو الوقوع في منع المعرفة الحية التي تسمح بها ليس فقط الديموقراطيات الغربية بل أيضا الديكتاتوريات الشعبية..
حكى لي ناشر عربي معروف عن مفكر وفيلسوف عربي معروف أيضا رفض وغضب وعصب من نشر أعمال زميل له يؤسس لمشروع مغاير وكتابات متعاكسة وموضوعات لا تمسه شخصيا كلقب جامعي بل قد تذهب مذهبا آخر في المعرفة..
إن عبد الصبور شاهين المفكر الإسلامي، وواحد من المهتمين بنشر فكر مالك بن نبي وترجمته تناغم أيما تناغم في احتجاجاته مع الجماعات التي انهالت على نصر حامد أبو زيد واجتهاداته بالنكرانية والتلطيخ في الوحل والشتائم والتكفير وصولا عند دعاوى التفريق عن زوجته ابتهال يونس، مع هذه الجماعات الإسلامية المختلفة 'وبعضها جهادي- كان أيضا في الموقف المستشار سليم العوا والمفكر طارق البشري وفهمي هويدي وأقلام آخرين معروفين في مصر وفي العالم العربي بوسطيتهم واعتدالهم ونأيهم عن أفكار الجهاديين لكن المخادعات والدوافع الشخصية الخفية تجعل دائما الكتاب العرب بعيدين كل البعد عن ما يجمعهم أكثر، الديكتاتورية في المعنى والتأويل، العنف اللفظي، الآراء الظلامية ومفاهيم كثيرة أخرى.
إن عبد الصبور شاهين هذا هو الذي سيتعرض كتابه فيما بعد، المعنون ب “أبي آدم" إلى صخب ومطاردات أغبياء وسباب ولعان وتفسيق مما يكرهه النبي (ص) والله والملائكة.
تتشبه الكتابة بملعب كرة القدم كما كان يقول جاك دريدا دائما لها المرمى، الفريقان، الجمهور، وخطوط التماس لها الحكم والصفارة ومن هو وراء الحكم ووراء الصفارة، داخل الأمتار المربعة أو المستطيلة يمكن للكاتب أن يسوح، أن يسافر برأسه وأن يسجل أهدافا وقبل ذلك أن يراوغ، فقط أن الكتابة حرة، في لباسها، في مراوغاتها، حتى في شتائمها فقط ألا تطال العرق والدين والنسب والدولة وإقليم الدولة، الكاتب حر داخل ملعبه وعليه أن يتجنب خط التماس والبطاقات وما يؤجج فاشستية الجمهور، هذه المقاربة ضرورية وأخلاقية عند الشبر صفر من البياض ومن أرض الكتابة وعند أشبار ما بعد المليار من الحريات، لا تكن أصوليا تماميا، تحتكر الله والأخلاق والوصاية ومن وصاك أيها الكاتب ولا تكن الظلامي، الهالك للملذات وللأفراح ولأعراس الكلمات، لا تكن كما كان يقول دائما المفكر الليبي الصادق النيهوم كمن يسرق الجامع والجمعة والصلاة، وسجادة الصلاة، لا تكن كحال الخلاعي، من ينكل بالموتى وبالجثث وبالكرامات، لا تكن البادئ بذكر الأسماء دون احتراز غير آبه بالمعابد ولا بمخادع النوم وأسرة الهانئين اللامبالين الذين لم يغمزوك أو يلمزوك.
ليس شأنا عظيما ولا هو الخطب الجلل أن يحذف من الرفوف كتابا من كتب صادق جلال العظم أو سيد قطب أو فراس السواح أو ثلاثية هنري ميلر أو بنات الرياض أو أبناء الخطأ الرومنسي أو كتاب النبي لجبران خليل جبران، أو كتب إيليا حريق أو راشد الغنوشي، فإن صفارات الإنذار موجودة دائما وفقاعات الهواء موجودة دائما والعسس هم، هم كما هم، عليهم أن يصدروا اللوائح الثانية يعد الأولى لحماية الخير العام ونشر الفضيلة وزجر المخالفين، الكتابة هي هكذا قدريا فعل تكثيف دائما داخل مساحة العشب المسطور، فإن الفرنسيين وهم حملة أدب وجماليات عانوا من النصوص المهربة التي كانت تصل إليهم عبر مغامرات المكتبيين ولم يكن ثمة استثناء مع لويس آراغون أو أندري جيد أو بول ايلوار أو فرانسوا مورياك، أو ثمة استثناء مع “دار امينوي"، أو “جوليار" أو “عاليمار" أو “فلاماريون" أو “لوسوي".
لقد حاول الألمان ذات مرة “إقناع صناع الكتاب بحسنات الجهاز القمعي القائم" فأشركوهم في الرقابة ووقعوا معهم الاتفاق حول رقابة الكتب وكان ذلك في 28 سبتمبر 1940م وهو الذي سيسمح لهم بالاستمرار في النشر، وهكذا خطوط التماس التي يتساوى معها الكل في العمل الكتابي بين من يحمل فقط شهادة لا إله إلا الله، وشهادة التطعيم ضد الحصبة ومن يحمل شهادة دكتوراه من جامعة السوربون، الكتاب هكذا لمن يحبه إنه كالزواج، قفص ذهبي لا غير نحبه كثيرا، نحبه جدا وعلينا أن نتحمل...


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)