الجزائر

رسامة شارع ديدوش مراد.. عندما تتفوق إرادة الحياة على السقوط تمتهن الرسم على الرصيف منذ ثماني سنوات



رسامة شارع ديدوش مراد.. عندما تتفوق إرادة الحياة على السقوط                                    تمتهن الرسم على الرصيف منذ ثماني سنوات
لا يهم اسمها ولا سنها فقد أضحى الزمن في عرفها كتلة جامدة مذ تحولت هي إلى ديكور في شارع ديدوش مراد بالعاصمة. تعودتُ يوميا ومنذ ثماني سنوات أن أراها ملازمة لإحدى زوايا هذا الشارع وهي ترسم ”بورتريهات” لأناس يتوقفون للحظات وهم يبدون إعجابهم بما تقدمه أنامل هذه الشابة.
قد تغيب لبعض الوقت لكنها ما تلبث أن تعود للظهور في الشارع الضاج بالحركة وهي منكبة على ألوانها وأوراقها، ربما لا أحد يعرف اسمها لكن الكل يعرف “رسامة شارع ديدوش مراد” التي تبدع أمام المارة.
في كل مرة كنت أنوي أن أتقدم للحديث معها لكن نظرة ما من عينيها تصدني في كل مرة. مرت شهور وأسابيع لم أشاهد فيها تلك الشابة بألوانها وأوراقها حتى عادت مؤخرا للظهور بلا سابق إنذار، كانت تضع خمارا على رأسها وقد اتخذت من إحدى كراسي شارع ديدوش مراد مرسما في هذا الصباح المشمس.. لست أدري ما دفعني للحديث إليها بعد أن راقبتها ثماني سنوات كاملة بفصولها وأيامها، ربما صوت الشابة جنات يخرج من إحدى المحلات المجاورة يصدح بأغنية “ما تجبدوليش” قد شجعني للحظة على فتح الحديث معها، فقد وجدت ثمة تشابه بين صوت جنات ووجه الشابة، فكلاهما كان يفضح نفاق وظلم هذا المجتمع.
كأني ما تحدثت لشخص قبلها وقد واجه ارتباكي تحفظها عن ذكر اسمها وتفاصيل حكايتها، فقررت أن أطلق عليها اسم حياة.. لأنها كانت بصدد صناعة الحياة في شارع يعادي تاء التأنيث كيفما كانت.
كل من تقوده قدماه إلى شارع ديدوش مراد بالعاصمة تستوقفه ملامح امرأة تنصب أوراقها على كرسي مقابل حافلات نقل المسافرين، وقد تنصبها أيضا قرب الجامعة، وهي ظاهرة لم تكن مألوفة في المجتمع الجزائري، حيث تمتهن حياة رسم البورتريهات مقابل مبالغ تتراوح قيمتها بين 800 دج وألف دج. تستعمل قلم الرصاص والحبر الصيني في رسم لوحاتها وصور الناس التي تبدع فيها بأنامل تمرنت على مداعبة القلم منذ كانت في سن الثالثة عشر. تتحدث حياة بتحفظ كبير، فالشارع علّمها أن لا تثق بسهولة في الناس لكنها أيضا تعلمت أن “ثمة غدا ومكتوبا وقضاء و قدرا، وثمة قوة تنبع من داخلنا وهي على استعداد دائم للوقوف إلى جانبنا لتساعدنا عندما نريد نحن أن نصنع أقدارنا”.
حياة هي واحدة من ثلاثة شبان يمتهنون الرسم على رصيف ديدوش مراد لكن وحده وجودها يستوقف العابرين من هنا. حركة يديها تعبر عن توترها، تزعجها نظرة الشارع إليها بقدر حبها لفنها الذي تسترزق منه..”عانيت كثيرا من نظرة الشارع، من الاستهزاء، من اجتياح نظرات الآخرين، وقد دافعت عن نفسي ضد الاعتداءات، وضد وحشية بعض الناس، كانت موهبتي درعي ضد السقوط”، تقول حياة.
السنوات الثمانية التي قضتها حياة على رصيف ديدوش مراد عرفت خلالها تغيرات وعاشت قصصا وأقدارا يصعب اختصارها في سطور. حياة الآن تزوجت وهي أم لطفلة في شهرها الرابع، وقد ارتدت الخمار واكتسبت بعض الجرأة في الحديث إلى الآخرين.. ليس صعبا أن يلاحظ من يتحدث إليها ذلك.
حياة، فتاة من الجنوب الجزائري عاشت حياة يصعب اختصارها في بورتري. عندما بلغت سن التاسعة عشر وجدت نفسها تغادر مركز الطفولة المسعفة إلى الشارع، في هذه السنة صارت أما لطفل عندها كان عليها أن تفعل المستحيل لحماية طفلها. لم يكن لديها حينها ما تخسره لذا قررت الذهاب نحو النهاية. كان الرسم وسيلة لحماية داخلها من الانهيار، كانت ترسم لتواجه قسوة الحياة، اختارت حياة أن ترسم الوجوه فعبر تقاسيم البشر كانت تقرا الأقدار. ربما هذا ما أكسبها خبرة في قراءة نوايا العابرين من حديثهم، فلا مسافة ثالثة بين الأبيض والأسود الذي ترسم به حياة لوحاتها.
هي تعي جيدا أنها فنانة والله قد منحها هذه الموهبة لتواجه الحياة، لكنهاتقول “أنها ليست بحاجة إلى معرض، لا يوجد من يقدر الموهبة ولا من يعي القيمة الحقيقية للفن، وعلى كل أنا بعملي هنا أقيم معرضا مستمرا ولست بحاجة إلى قاعات مكيفة”. عندما ودعت حياة تركتها منهمكة في رسم “بورتري” لزوج شاب، كانت أناملها موغلة في تفاصيل الوجوه وقد رسمت على شفتيها ابتسامة لها صفة الدمعة، وقد بدا وجهها لحظتها أشبه ب”الموناليزا” ناطقا بفداحة ما اقترفه الزمن في حقها.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)