كم يحلو الحديث معك يا أمّي! منذ الصغر وأنا أستمتع بأحاديثك وحكاياتك، سواء ما تعلّق منها بالشأن العائلي أو بتلك القصص العريقة والأمثال الشعبية والحكَم التي تسري على لسانك كشهد العسل حتى وإن كانت حزينة وتتضمن شكوى من قسوة الأيام وغطرسة العباد...سؤال مربك أن يُطلب منك أن تكتب رسالة بمناسبة حلول السنة الجديدة، وتُترك لك حرية اختيار الموضوع! لا أتذكر ما هي آخر رسالة كتبتها، أعني رسالة كتلك التي كنا نكتبها ذات زمان، حين كانت الرسالة هي الوسيلة الوحيدة للتواصل مع العائلة والأصدقاء، حيث نبدؤها دوما بالتحية والسؤال عن الصحة والأحوال الخاصة ونختمها بإرسال السلام إلى جميع أفراد العائلة اسما اسما؛ أو تلك الرسائل الغرامية التي نضعها في صندوق البريد الخارجي بأيدٍ راعشة وقلب خافق ونظرات مترقبة، نرسلها لحبيباتنا، باسم فتاة على الغلاف في واجهة المرسل، لإبعاد شكوك العائلة؛ أو تلك التي نبعثها إلى الإدارة ونجتهد في البحث عن الكلمات والصيغ المناسبة التي تعلي من شخص المرسل إليه لعله يرضى بالجواب عن مطلبنا مهما كان شرعيا وبسيطا.أو تلك التي كتبتها لبعض أصدقائي الكتاب أناقشهم فيها بعض مسائل الأدب والنقد، وهي قليلة، لا أتذكر منها إلا رسالة طويلة كتبتها إلى أمين الزاوي أناقشه في موضوع روايته "الدنيا في وهران". اندثرت تلك الطريقة في التواصل منذ انتشار الهاتف، وما جرّ معه من رسائل "الأسَماس"، حيث أصبحنا نكتب العربية بحروف لاتينية ونكتفي بالكلمات القليلة وباختصار شديد، يخلّ بسلامة اللغة وقاموسها. أمازلنا قادرين على كتابة رسالة نخاطب بها شخصا نحبّه ونعبّر له عن شوقنا، بتلك المعايير التي تسمح بالتأني في الكتابة وإعادة النظر في الصياغة، خوفا من التعبير السيء أو من الوقوع في أخطاء لغوية قد تحط من قيمة الرسالة في عين المتلقي.بالأمس فقط، زرت والديّ. إنه يوم جمعة يقضيه أبي كاملا في المسجد. فبقيت وحدي مع والدتي، ومن كلمة إلى أخرى، ومن موضوع إلى آخر، عادت ذاكرتنا إلى سنوات خلت، طفولتها هي وطفولتي أنا، ابنها البكر الذي تُشهِده على كل صغيرة وكبيرة كما لو أنني كنت توأمها الذي شاهد وعاش جميع تفاصيل حياتها. أثناء العودة، وفي لحظة خلوة مع نفسي، قلت لماذا لا أكتب رسالة لأمّي، لأبوح لها عن مشاعري التي ربما استطاعت أن تدركها بقلب وعاطفة الأمّ، ولكني لم أتمكن من الجهر بها.فإليك هذه الرسالة يا أمّي العزيزة، أطال الله في عمرك وأمدّك بالصحة الموفورة لتحمّل ثقل الشيخوخة، رغم معرفتي بأنّك سوف لن تقرئيها، أنت التي لم تدخلي المدرسة يوما، ولم تقرئي كتابا، برغم افتخارك بكتب ابنك. فكلما أريتك كتابا جديدا مما أنشر إلا ورأيت في عينيك حسرة وحزنا لأنك لا تستطيعين قراءتها. كنت في البداية تسألين عن فحواها، ثمّ مع كرّ الأيام، أصبحت تترصدين وسائل الإعلام السمعية والمرئية لتخطفي بعض المعلومات عما يخطه قلم ابنك في تلك الكتب التي تثير الإعجاب والاهتمام إلى حدّ حديث الناس عنها واستضافته في وسائل الإعلام.كم يحلو الحديث معك يا أمّي! منذ الصغر وأنا أستمتع بأحاديثك وحكاياتك، سواء ما تعلّق منها بالشأن العائلي أو بتلك القصص العريقة والأمثال الشعبية والحكَم التي تسري على لسانك كشهد العسل حتى وإن كانت حزينة وتتضمن شكوى من قسوة الأيام وغطرسة العباد. كنت أسمعك دوما تصفين تلك الحياة الريفية البعيدة بدقّة عجيبة، لا تتركين واردة ولا شاردة إلا وأدرجتِها في سياق الحكي، إلى حدّ لم أعد أعرف إنْ كان ما تختزله ذاكرتي، عن طفولتي التي قد تمتد إلى غاية الشهور الأولى من ولادتي، هي أفعال أتذكرها فعلا لأنني عشتها، أم مجرّد حكاياتك قد تَحوّلت مع مرور الأيام والتكرار إلى ذكرياتي أنا، وليست تخيلاتي أنا، شكّلتها حكاياتك أنتِ. الآن، تتدفق عليّ الأحداث والمشاهد، تتزاحم، تتنافس، وتريد كل واحدة أن تسبق الأخرى. ويشق عليّ رصفها وترتيبها. من أين أبدأ؟ لنحترم التسلسل الزمني، ونبدأ بطفولتك الأولى حيث لسَعك يُتمُكِ الأول بعد تجنيد أبيك قسرا في الحرب العالمية الثانية، فغاب مدّة أربع سنوات، ظنّه الجميع قد قُتل في تلك المعارك الجنونية، ولكنه عاد بعد أن وضعت الحرب أوزارها وقال بأنه وقع سجينا في قبضة الجيش الألماني وكاد يهلك من الصقيع والجوع. وكيف تيتَّمتِ حقيقة للمرة الثانية حينما توفيَت أمّك وأنتِ ابنة تسع سنوات وكيف أصبحتِ، وأنت الفتاة البكر خادمة العائلة، وكيف تكفّلت بأخواتك الكثّر، وكان عليك القيام بكامل شؤون البيت من طبخ وغسيل في زمن كان فيه الطبخ على نار الحطب، والقمح ترحيه النساء على الرحى اليدوية، والماء يُجلب من العين الطبيعية التي تبعد عن الدار بمئات الأمتار في تضاريس جبلية شاقة، زيادة إلى العناية برعي قطيع الغنم والماعز وتنظيف الزرائب. ثمّ كيف زوّجوك وأنتِ ابنة الخامسة عشر، لتتحولّي من خادمة لعائلتك إلى خادمة لعائلة زوجك الغائب دوما، بحثا عن العمل الزراعي في مزارع المعمرين عبر سهول المتيجة، ثم في الجبال المجاورة ضمن فرق المجاهدين، وأخيرا في سجون الاستعمار، وبالضبط سجن بول غازال في عين وسارة لأزيد من سنتين، ولم يطلق سراحه إلا عند الاستقلال. وكيف رُحِّلتم من جبالكم وجُمِّعتم في محتشدات "لاصاص" في خلاء لا يتوفر على أدنى مرافق الحياة، وكيف مشيتِ نصف يوم كامل وأنا الطفل الرضيع على ظهرك ملموما في فوطة، وكيف أصابك الفزع وأنتِ تعتقدينني ميتا لأنني توقفت عن الحركة لمدة ساعات الرحيل، ذلك لأنني كنت مريضا بالحمى، واهنا منذ أيام. وأنا ما زلت أحتفظ في ذاكرتي بمشاهد واضحة المعالم عن تلك الرحلة دون أن أعرف إن كنت حقا شاهدا على مجراها أم أنني لا أختزل إلا روايتك عنها وحوّلتُها إلى وقائع حيّة تنبض في مخيلتي كما لو أنني عشتها حقا وحقيقة. وقساوة تلك الحياة داخل أكواخ ضيقة، متراصفة في مساحة ضيقة جدا، وأنتم المتعودون على الفضاء الرحب والتنقل بحرية في أراض شاسعة وبين ذويكم، لتجدوا أنفسكم تتعايشون مع غرباء، ولا يحق لكم مغادرة المحتشد إلا برخصة من العساكر الفرنسيين الحارسين، زيادة إلى التفتيش الدائم بحثا عن الأسلحة أو المؤونة الزائدة، التي تسرَّب إلى المجاهدين في الجبال غير البعيدة. إنها أسوأ سنواتك مثلما تقولين دائما. وجاء الاستقلال يحمل معه الأحلام الكبرى. صحيح أن الوضع قد تغيّر، بل وتغيّر كثيرا. الرحلة إلى المدينة، والسكن اللائق والمدرسة للأولاد الكثّر. نعم، الأولاد الكثّر. كم سمعتك يا أمّي، وأنا الابن البكر، تشتكين من كثرة الشغل والآلام المتواصلة من الولادات المتكرّرة! شكرا لله الذي أمدّك القوة اللازمة لإنجاب أحد عشرة طفلا، عاش جميعهم إلا واحد مات في أيامه الأولى في السنوات الأولى للاستقلال. كنتِ لبؤة شرسة، بعشرة أيادٍ ومئات عين حارسة مترقبة وعقل راجح يشتغل كالحاسوب، يدبّر ويقرّر وينجز. والزوج الغائب مرة أخرى، في مصنع الحديد بالعاصمة، لا نراه إلا مرة في الأسبوع. فتهاطلت عليك جميع الأشغال، ولكنك كنت جديرة بالمهمة الصعبة. يد في الرحى وأخرى في الفرن كما يقال. وكم كنا نخافك عند الغضب، ورفع "المشحاط" لمن عصا وتكاسل، وحينما يعمد أحد إخوتي إلى رميه أو إخفائه، وكثيرا ما يحدث، فتستعينين ب "البلغَة" وتغلقين الباب الخارجي، ويبدأ العقاب بالجملة، من فعل ومن لم يفعل. وكنتُ أنا، ابتداء من سنّ مبكرة جدا، يدك الحادية عشرة، وعينك المساعدة، وعقلك المعين، فتجدينني دوما إلى جانبك، إن في الطبخ والغسل والكنس ورفع "المشحاط" أو "البلغة" وحمل الحقائب للذهاب إلى الحمام العمومي والوقوف عند رؤوس المتقاعسين في دروسهم، زيادة إلى حمل القمح إلى الرحى وجلب قارورة الغاز وأحيانا الحطب للفرن التقليدي. كنتِ يا أمّي صبورة وشهمة في تربية أولادك والحرص على أن لا يبقوا بلا خبز ولا مرق وإن كان بحبات بطاطا في الماء المغلي وبملابس نظيفة برغم قدمها وتشققاتها وأن يواصلوا دروسهم إلى أقصاها.اليوم، بالأمس فقط، حينما أجالسك ونستغرق في حديث شيق، نستحضر تلك السنوات، فأتساءل هل أنتِ أمّي أم أختي التوأم التي أعيش معها منذ ولادتنا معا في تلك الجبال القاسية، البعيدة، ومن بعدها تلك الرحلة الطويلة مع السنوات وتقلباتها؟ فأنت أمّي وأختي وأنا معا، لذلك أسمح لنفسي بأنْ أناديك باسمك أحيانا، باسمك الحاف، مقرونا باسم أبيك، لشعوري بأن تلك الألقاب تشعرني بالبعد عنك وأنت المتواجدة دوما بداخلي، لا أرى نفسي بدونك أبدا.حفظك الله يا أمّي العزيزة، أطال عمرك ومعه الصحة الموفورة اللازمة لشيخوخة سعيدة.إلى أن نلتقي دمت في رعاية الله وحفظه.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 30/12/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : محمد ساري
المصدر : www.djazairnews.info