الجزائر

رحلة مع المهربين إلى شمال مالي ''الخبر'' عاشت الوجه الآخر لصحرائنا الكبرى



لعبة القط والفأر مع العواصف وقوات الأمن
''الصحراء لا يحكى عنها بل نعيش غرائبها. هي في غاية الجمال تثير الهيجان وتسحر النفوس في نفس الوقت''. هذا شعار مكتوب على لوحة إشهارية منصوبة عند مدخل فندق تاهات الذي دشنه الراحل هواري بومدين قبل وفاته بأشهر في مدينة تمنراست. بدا مجرد عبارات، صاحبها يتقن الأسلوب الأدبي وكفى، لكن بعدما قطعت مسافة ال600 كلم التي تفصل تمنراست عن برج باجي مختار على طريق رملية أحيانا وحجرية وترابية أحيانا أخرى، طريق ملتوية تتخللها وديان وأفق يظهر ويجعلك تشعر أنك تسير في الاتجاه الصحيح ثم يختفي ويتسرب إليك اليأس من أنك ستخرج سالما من مغامرتك.. حينها فهمت أن المقال الصحفي أو الأدبي أو أي نوع آخر من الكتابة لن يكفي لنقل كل خبايا الصحراء لمن لم يعايشها.
البداية إذن كانت من فندق تاهات مساء الأربعاء 21 نوفمبر الماضي. التغطية الهاتفية منعدمة، جربت ما لا يقل عن عشرة أرقام للمتعاملين الثلاثة في الهاتف النقال قصد الاتصال بالمصادر التي اتفقت معها قبل التنقل إلى عاصمة الأهفار. ولا مكالمة تمر.. الخيبة بدأت تتسرب إلى نفسي، خشيت أن أقضي كل فترة مهمتي في الدخول والخروج من بهو الفندق بحثا عن ال''ريزو''. وأمام استحالة الاتصال بالأصدقاء هناك، بدأت أحضر مواضيع بديلة للموضوع الذي تنقلت من أجله إلى تمنراست: ''موضوع أزمة مالي واللاجئين الماليين في الجزائر''. الملف الثاني في ترتيب الأهمية في هذه الولاية هو السياحة ومدى تأثرها بالوضع الأمني في المنطقة والساحل الإفريقي ككل. وزير السياحة الأسبق والحالي أكدا مرارا أن سياحتنا الصحراوية ستنتعش قريبا ولم يؤثر عليها نشاط القاعدة. لكن أخبار السياح في فندق تاهات، الأكبر في المنطقة وتابع للقطاع العام، تقول العكس. الزبائن هنا جزائريون شباب يشتغلون في الشركة الوطنية لأشغال الأنابيب وشركات أخرى، أما الأجانب فمنهم صينيون وروس جاءوا في مهمة تعاون مع الجيش الوطني الشعبي. لا أثر إذن للسياح في الفندق، والذين مازالوا يقصدون تمنراست يأتون إلى معارفهم، فحتى النشاط السياحي سيطرت عليه السوق الموازية ومداخيله لا تستفيد منها الخزينة العمومية عن طريق الضرائب، ولا الاقتصاد الوطني عن طريق الفنادق والمطاعم أو محلات المواد الغذائية والمصنوعات التقليدية. هم يأتون إلى إقامات خاصة توفرها لهم عائلات وأصدقاء في المنطقة، إلى درجة أن من ينزل في مطار الحاج موسى أخاموخ دون احتياطات مسبقة لن يجد من ينقله إلى المدينة. الناقلون يعلمون أن كل من يسافر إلى مدينتهم له من يتكفل بنقله، وبالتالي لا يراهنون على خط المطار لكسب قوت يومهم.
فرار من جحيم ''القاعدة''
بإمكان واقع السياحة إذن أن ينقذ مهمتي في حالة بقاء التغطية الهاتفية على حالها، ويمكنني الآن أن ألتحق بالغرفة للاستراحة. قضيت الليلة أتابع ''فرانس ''24 لعل من أخبار عن تطورات الوضع في شمال مالي، لكن لا شيء في الأفق تلك الليلة. وفي الصبيحة بدأت الأمور تنفرج، صديقي عبد القادر اتصل بي مبكرا: ''أين أنت؟ أبحث عنك منذ أمس''. - ''أنا في فندق تاهات''. ''أخرج إلى باب الحراسة سأكون عندك بعد لحظات''. عبد القادر هو عضو جمعية دولية خيرية للشبيبة العربية، مقرها كان في تمبوكتو المالية. هو جزائري ومعه جزائري آخر ترفي خريج جامعة بومرداس، إلى جانب ماليين وسودانيين وسوريين وتونسيين... وأول نشاط للجمعية تأسيس مدرسة قرآنية في تمبوكتو سنة 2011 وكانت تهتم بالحفاظ على المعالم الأثرية والمخطوطات التاريخية. وبعدما دخلت الجماعات الإرهابية المنطقة، تفككت الجمعية ولم يبق منها سوى ختمها وبعض وثائق ملفها الإداري، بحوزة عبد القادر.
لحظات بعد المكالمة الهاتفية، وصل عبد القادر الذي يشتغل حاليا في قطاع الصحة مكلفا بنقل المرضى الذين يحولون من تمنراست إلى مستشفيات العاصمة. هذه المهمة سمحت له بالوقوف على معاناة مرضى الكبد والسرطان بشكل خاص، حيث ينقلون إلى العاصمة دون أي دعم من السلطات المعنية. يتكفل بنفسه بإيوائهم وتسوية إجراءات المستشفى... ما جعله يؤسس جمعية لمرضى السرطان والكبد في تمنراست، مطلبها الأساسي هو تزويد ولاية تمنراست بسيارات الإسعاف الكافية ومساعدة المرضى لدى تنقلهم إلى العاصمة، خاصة في مجال الإيواء...
كان هذا موضوعا ثانيا اتفقنا مع عبد القادر على تناوله، حيث اشتكى من تجاهل الصحافة لمعاناة مرضى تمنراست، خاصة مرضى السرطان والكبد منهم. لكن قبل العودة إلى ملف السياحة ومعاناة المرضى، دخلنا في موضوع مهمتي الأصلية، وكانت شهادة عبد القادر دليلا حيا على ما صنعته القاعدة بمجرد استيلائها على تمبوكتو وغيرها من مناطق شمال مالي. وأظهر لنا عبد القادر تلك المحفظة الحمراء منتهية الصلاحية، لكنها سمحت له بنقل أرشيف جمعيته إلى الجزائر على طريقة الأفلام السينمائية التي تروي لنا وقائع الحروب ومقاومي الغزاة... قصة عبد القادر وجمعيته في تمبوكتو لحظة هجوم السلفيين (كما يسميهم) أو عناصر القاعدة عليها، تشبه قصة عائلة محمد الكنتي، شيخ الزاوية القادرية في العاصمة المالية باماكو. حيث فر هو إلى الجزائر بينما توجهت زوجته وأبناؤه الأربعة رفقة عائلته الكبيرة من مسقط رأسها ماناكا إلى العاصمة النيجرية، نيامي. ولا يدري محمد هل سيستقر في الجزائر أم سيعود يوما إلى بلاده، لكنه بدأ حياة جديدة في تمنراست فور وصوله إليها منذ شهر. فقد تزوج هناك ويقول: ''أنا شيخ وهذه المسألة بسيطة بالنسبة لي'' ولا يتوقف عن زيارة عائلته في النيجر...
أصدقاء الشيخ ممن فروا من جحيم الحرب من مالي كثيرون في تمنراست، وكان لنا موعد بعد ظهر الخميس للقاء هؤلاء ونقل ظروفهم الاجتماعية والظروف التي تنقلوا فيها إلى الجزائر. غير أن الوقت داهمنا وكنا منشغلين بترتيب سفرية برج باجي مختار ثم بلدة الخليل المالية القريبة من حدودنا.
لعبة ''ما شفتني ما شفتك''
الرحلة كانت مقررة مساء الخميس على أن نصل إلى وجهتنا صبيحة الجمعة، وحينها يكون الدخول إلى المنطقة مفتوحا. لكن الترتيبات تأخرت، لأن السفر عبر الصحراء لمسافة مئات الكيلومترات محفوف بالمخاطر ويتطلب إعداد العدة من أكل وشرب وأغطية ووقود... زيادة على كل هذا، اشترطت من مرافقي أن أعلم مصالح الأمن بالسفرية قبل الانطلاق كوني في مهمة بتمنراست. مرافقي أخبروني أن الرحلة ملغاة مسبقا إذا كان سفري يمر حتما عبر إخبار مصالح الأمن. وأثناء الأخذ والرد الطويل، اكتشف السائق عطبا في سيارة ال''4/''4 أو ''الحاجة'' كما يلقبها. الوقت تأخر كثيرا وسنجد الطريق مقطوعة على مسافة 70 كلم من مدينة تمنراست، أي على مستوى مقر بلدية سيلات.
في الصباح التقينا أنا ومرافقي الاثنين والسائق ومرافقيه الاثنين كذلك أمام بيت يبدو أنه مخزن للوقود. ظننت في البداية أن الأمر يتعلق باحتياطات السفر، لكن الكمية التي تم شحنها على سقف السيارة وداخل الصندوق الخلفي جعلتني أشك في حقيقة السائق وجماعته. فكرت بداية في إلغاء الرحلة، لكني تداركت بسرعة وقررت خوض المغامرة لاكتشاف خبايا أخرى في الصحراء وفي جزائرنا العميقة عامة. ثم لا أحد سيقبل بنقلي في تلك الوجهة من غير من أسميهم في هذا المقام ب''المهربين'' التزاما بقوانين الجمهورية، ومن يسميهم رفيقاي ب''خدامين على شرهم''، ثم ''عبور الصحراء يحمل مفاجآت عديدة تجعل أي كمية من الوقود التي تحملها معك غير كافية لإنقاذ نفسك من الضياع، وعندما ينجح هؤلاء في إيصال ما يمكنهم من السلعة إلى الوجهة الأخيرة فيكسبون بعض النقود تعوضهم عن مصاريفهم'' يقول رفيقاي. بعض النقود هذه هي 200 دينار للتر البنزين و100 للتر المازوت، بمعنى أن الكمية على متن السيارة يقدر مدخولها بعشرات ملايين السنتيمات.
بمجرد ابتعادنا عن الأحياء السكنية لمدينة تمنراست، دخلنا في طريق ترابية ستوصلنا إلى طريق ''الفودرون''. ظننت أن الطريق الرئيسية مقطوعة، لكن هذا الانحراف هدفه تفادي أول حاجز للدرك الوطني عند مخرج المدينة باتجاه بلدية سيلات. وعند دخولنا مجددا في الطريق الرئيسية وجدنا سيارة كانت مركونة بجانب سيارتنا، في الاتجاه المعاكس. تحية سريعة ثم انطلقت السيارة. ''إنه صاحبكم''، فرد السائق ''إيه ليسكورت''. ''وهل هناك إيسكورت أخرى تنتظرنا فيما تبقى من المشوار؟'' يرد أحد رفيقيّ: ''ما تكثرش الأسئلة عليهم حتى لا يشكوا في أمرك''. إلى هنا الجماعة اعتقدت أنني أمثل منظمة إنسانية، وبعد انطلاق المغامرة تركت الأمر في نفس الإطار ولم أكشف عن هويتي. قطعنا بضعة كيلومترات وانحرفت السيارة مجددا عن الطريق الرئيسية. هناك حاجز آخر للدرك الوطني يجب تجاوزه على طريق ملتوية. والغريب أن الحاجز نصب على مسافة ليست بعيدة عن الطريق الملتوية وتجاوزه كذلك لا يتطلب الابتعاد عنه لمسافة بعيدة. السائق بحاجة لتفادي الإحراج لا أقل ولا أكثر لأنه، على حد تعبيره ''إذا مررت أمام الحاجز فهذا يعني قفازة'' ولا يعقل أن يجهل أعوان الدرك أو الأمن حيل المهربين والسائقين لتجنب حواجزهم وهم يشتغلون ليل نهار على محاربة الغش والتهريب.
دخلنا مقر بلدية سيلات وتوقفنا عند محطة الوقود الوحيدة المتواجدة في المنطقة. لا يجوز ملء خزان السيارة هنا بكمية تفوق قيمتها 400 دينار. أنهينا العملية البروتوكولية وإذا بسيارة شرطة تمر أمامنا قبيل الخروج من المحطة بلحظات قليلة. سرنا خلف السيارة وبدأ السوسبانس، هل نتجاوزها أم نتوقف قليلا حتى تبتعد عنا أم نواصل السير خلفها...؟ أخيرا قرر سائقنا تجاوز أعوان الشرطة دون ضجيج، وعلى مسافة أمتار انتهت الطريق المعبدة وتبدأ المغامرة الكبرى.
ساعات في تعداد المفقودين
العاصفة الرملية لم تتأخر طويلا لاستقبالنا بحفاوة والرؤية منعدمة علينا على مسافة أمتار، مع ذلك السائق لم يخفض السرعة. وقت الوصول إلى وجهتنا كان مقررا في حدود الرابعة أو الخامسة بعد الزوال، وأكثر من ذلك سنضطر للمبيت في الهواء الطلق. الساعة تشير إلى الحادية عشرة وربع بالضبط، تتوقف السيارة لأول مرة، إنها بداية المفاجآت. عطب في العجلة وليس أكثر، ولم يتطلب تغييرها وقتا طويلا، رغم أن العملية هنا تختلف عن تغيير العجلة في طريق عادية. هنا ضغط رافعة السيارة يتجه إلى عمق الرمال أكثر مما يتجه إلى الأعلى، علينا إذن أن نحفر تحت العجلة لتنحيتها. انتهينا من العملية وانطلق السائق مجددا بسرعة لا تقل عن 80 كلم في الساعة، وبعد ساعة تقريبا خفّت العاصفة وكان المرشد الترفي الذي رافقني في الرحلة أول من انتبه أننا ابتعدنا كثيرا عن الطريق الصحيحة. السائق لا يوافقه الرأي ويشير إلى حجرة سوداء، ''هذه الحجرة تبعد عن العرق حوالي 20 كلم''، والعرق هو دليلنا الرئيسي، بالإضافة إلى التضاريس الأخرى التي تظهر لنا في الأفق وكذلك عجلات وأعمدة وشجيرات نلتقي بها من حين لآخر... وبعد ربع ساعة أخرى من السير يتوقف السائق عند حافة واد، وهنا يقتنع بأنه ضيّع فعلا الطريق ويطلب من الجماعة كلها أن تجتهد وتبدي رأيها في الاتجاه الذي نسلكه.
مرشدنا اشتغل مع السيّاح الأجانب لسنوات طويلة، ويقول إنه كان يحقق ثلاث إلى أربع ملايين سنتيم في كل مهمة، وحاليا دخل البطالة بعدما أوقفت وكالة السفر التي كانت توظفه، نشاطها. يعرف الصحراء من حدود ليبيا إلى حدود موريتانيا، على حد تعبيره. جبل ليس بعيدا عنا كثيرا، والمرشد تعرف عليه، إنه ''جبل العسكر''، نسبة إلى قوات الجيش الوطني الشعبي المستقرة في أسفله في السنوات الماضية، لكن السائق يقول ''لا ليس هذا جبل العسكر''. المرشد يصر على رأيه ''لقد اكتسحته الرمال فعلا لكنه جبل العسكر عرفته، علينا أن نتجه نحو اليسار''. نزل السائق عند رغبة المرشد واتجه نحو اليسار. لا شيء في الأفق، ويقول مرافقي الآخر ''علينا أن نتبع إتجاه الشمس''، لكن السماء غائمة والعاصفة استعادت قوتها، ''الشمس من هنا''، يشير المرافق بيده مائلة قليلا بإتجاه اليمين، وفعلا بعد كيلومترات قليلة ظهرت لنا كثبان رملية. علينا الآن أن نسير في خط مواز لتلك الكثبان، لقد تجاوزنا الخطر، لكننا نسير حوالي ساعة أخرى لنجد الطريق الصحيحة. أخيرا عثرنا على واحد من الأعمدة المستعملة للدلالة على أنك في الطريق الوطني. اعتقدت أن هذه الطريق كانت مهيأة بالزفت وإشارات المرور... والرمال أفسدتها، لكن رفقائي على متن السيارة شرحوا لي أن الطريق الوطني تعني الاتجاه المسطر من قبل السلطات للسفر عبر الصحراء. دخلنا وسط الكثبان الرملية وقابلتنا مفاجأة أخرى، الرمال حاصرتنا وعلينا نزع أجزاء منها ودفع السيارة لإخراجها إلى مسافة قريبة. العملية ليست في غاية التعقيد مقارنة مع تلك الشاحنة نصف المقطورة التابعة لشركة وطنية مختصة في نقل العتاد. ركابها قدموا لنا يد المساعدة وطلبوا منا علبة سجائر يدفعون ثمنها أضعاف المرات إن اشترطنا ذلك. تركناهم في نفس المكان وسط الرمال رفقة شاحنتين أخريين لا تستطيع أي منها مساعدة الأخرى.
حوالي الساعة الثالثة بعد الزوال، وصلنا إلى منطقة تيميساو، أين توقفنا مجددا، لكن للاستراحة وتناول وجبة هذه المرة. الموقع سطح مترامي الأطراف تحيط به جبال بعيدة عنا نسبيا، به أشجار أوراقها وأغصانها تشكل مظليات تقي من يستريح تحتها من أشعة الشمس. موقع يشفي المريض، ليس بعيدا عن جبل العسكر، وتذكرت حينها عملية تحرير السياح الألمان والسويسريين الذين اختطفتهم جماعة عبد الرزاق البارة سنة .2003 لكن رفقائي ذكروني أن العملية لم تتم هنا بل شمال تمنراست. بقيت أمامنا نصف المسافة تقريبا، ما يعني أن الوصول إلى وجهتنا سيتأخر عن موعده المحدد بكثير.
وقت غروب الشمس، ابتعدنا عن تيميساو وعن البئر الوحيدة المتواجدة على طول الطريق، وصادفنا أول شاحنة للجيش الوطني الشعبي مرفوقة بسيارتين للدرك الوطني. مررنا أمام الموكب دون إشكال، لأن حركات أفراد الأمن هنا وأجهزة قياسهم للمسافة توحي أنهم في مهمة تحري عن موقع لاستقرار قوات أمنية أخرى. مسافة قصيرة ونصادف شاحنات عديدة للجيش متوقفة، ومررنا بشكل عادي أيضا. لكن مع بداية زوال الرؤية واشتعال أضواء السيارات بدأت الجماعة تشك في كل سيارة تتحرك خلفنا وبإتجاهنا.
الصلاة بسرعة
لا بد من زيادة السرعة والانحراف عن أضواء السيارات أو مواقع الجيش وقوات الأمن. نتوقف مجددا، ماذا هناك؟ ''لدينا وقت مع الله سبحانه وتعالى''، يجيبني المرشد، أي نتوقف لأداء الصلاة، وتم ذلك بسرعة وواصلنا السير بسرعة متزايدة في ظلام دامس، وفجأة موكب آخر للجيش يسير في إتجاهنا في هدوء تام. وضعية توحي أن الموكب ينقل أفراد الجيش لموقع العمل أو عائدين منه. الساعة تشير إلى حدود العاشرة، دخلنا موقعا يبدو أنه أثري، بقايا سكنات وأسوار... لا أضواء كهربائية ولا تقليدية، الهدوء يخيم على المكان. ''أنت الآن في مالي''، يقول لي المرشد. هنا انقلبت على رفيقي ''لم نتفق على خرق الحدود خفية على مصالح الأمن وفي الظلام... أنا الآن في وضعية مهرّب أليس كذلك''. رفيقي يجيب ''أنت بين أيد آمنة، عليك فقط أن تخفض صوتك أو تسكت.. ما تفضحناش''.
أصدقاؤنا المهربون انتبهوا إلى التوتر الذي تسرب إلينا وعملوا على طمأنتنا أن المكان آمن لا نخشى شيئا، لكن علينا تجنب الحديث للأشخاص المتواجدين معنا. أنزلت الحمولة بسرعة وأفرغت في براميل حديدية، السائق يسأل عن المطعم المتواجد في الموقع، كان ينوي دعوتي لوجبة عشاء أرقى. ''أعلم أنك لا تستطيع أكل طعامنا، لكن للأسف المطعم مغلق''. جلسنا في حلقة وحضر الطعام تركوا لي الملعقة الوحيدة المتوفرة، تناولت ملعقتين أو ثلاثا وتوقفت عن الأكل، ليس لأن الطعام سيئ، هو طعام البسطاء لا يختلف عما يأكله الجزائريون، لكن الشهية فقدت مبرر وجودها في نفسي، الوضع تجاوز حدود المفاجآت التي كنت مستعدا لها. لكنني شعرت فعلا أنني بين أشخاص مسالمين، يخاطرون بحياتهم من أجل لقمة العيش، ولو وجدوا مصدر رزق أكثر راحة وأكثر إفادة للمجتمع لما اختاروا هذا النشاط.
حان موعد النوم وخصصوا لي مخبأ يمكن وصفه ب''سويت''، مقارنة بظروف الإقامة الأخرى المتوفرة في المكان. لم تتوقف حركة السيارات طيلة الليل وطلقات نارية نسمعها على مسافة بعيدة من هنا، ''النشاط الجاري في الخليل ليلا ما يعلم بيه غير ربي''، يقول أحد المرافقين. وربما غياب التيار الكهربائي ساعد على ذلك، ولو تتصدق السلطات الجزائرية على هذه البلدة المالية بالتيار الكهربائي، لضمنت لنفسها نصف درجة اليقظة المطلوبة. في الصباح الجو جميل والحركة بدأت مبكرا في المحيط الذي نتواجد فيه، هو ''محيط تجاري''، يقول أحد أصدقائنا الذين سافرنا معهم. لكنه بالمفهوم القانوني محيط تهريبي، والعلاقات بين الأشخاص تحكمها قواعد المهربين الجزائريين: الحريات الفردية محترمة، بإمكاني التدخين هنا بكل حرية. شباب وأطفال منتشرون في كل مكان حول إبريق شاي وسجائر... وشاحنات بترقيم 11 (ولاية تمنراست) و39 (وادي سوف) تحمل علامات شركات لنقل البضائع وفلاحين... مركونة في حظيرة مكتظة بهياكل سيارات قديمة.
اجتزنا المحيط الذي يسيطر عليه الجزائريون في الخليل، واجتزنا المبنى الوحيد الذي يرمز للهندسة المعمارية العصرية في البلدة، هو مركز شرطة الحدود المالية، كما قيل لي، وهو مغلق، وعند مدخله شيخ بسط ''زربيته'' وجلس بمفرده يسبح بحمد الله ويداعب سواكا بفمه... وبعد أمتار قليلة ظهر لنا أول علم للأزواد عند مدخل محل تجاري. ثم ظهر العلم الأزوادي فوق سقف كل بيت وفي جل المحلات التجارية. نحن هنا عند الأزواد، أليس كذلك؟ ''مخلطة الحالة''، يجيبني رفقائي. وعلي الآن أن أحذر من التدخين، لأن أنصار الدين يفرضون عقوبة قطع الأصابع على المدخنين. لم أشاهد أشخاصا يرتدون لباسا أبيض بلحية كثيفة، كما وُصف لي أنصار الدين، وطُلب مني ألا أحدثهم إذا صادفتهم، لكن شاهدت هؤلاء في تمنراست.. ملكان أبيضان، لحية سوداء على متن ''4/''4 في معقل التهريب بعاصمة الأهفار.
الأزواد يسترجعون سيطرتهم على الخليل
من بين الشعارات المكتوبة على جدران مباني بلدة الخليل ''مثلما حرر آباؤنا البلاد من الاستعمار سنحررها من الإرهاب الهمجي الأعمى''، أو شعار ''شارع شارع، دار دار، زنفة زنفة''. الظاهر أن الأزواد استرجعوا سيطرتهم على الخليل بعدما كانت هذه الأخيرة مقرا لقيادة أركان القاعدة. وهنا أيضا تذكرت مقالات الصحف التي كانت تخبرنا بنقل جماعة البارة رهائنها إلى بلدة مالية قريبة من الحدود الجزائرية. لكن القاعدة الآن تنقلت إلى غاو، وهذا لا يعني أنها اختفت من الحدود الجزائرية ومن التراب الجزائري تماما. هي تستدرج ضحاياها باستعمال معارفهم وإغرائهم بما يحبونهم، وبين لحظة وأخرى تتوقف سيارة ''ستايشن'' أمامهم وينزل مسلحون يأمرون الضحية بالركوب... وبداخل ال''ستايشن'' يتم ربط أرجلهم وأيديهم، وبعد ساعات قليلة تجد الضحية نفسها في غاو. بعد هذه الأخبار... ركبنا أول سيارة ''تويوتا'' متوجهة إلى برج باجي مختار، على مسافة 20 كلم من الخليل.
أخيرا وصلنا إلى حاجز أمني جزائري، لقد انتهت المغامرة بالنسبة لي. اتفقنا على جواب واحد إذا سألنا أعوان الدرك من أين أتينا: ''جئنا من تيمياوين''، لأن الطريق المعبدة هنا تربط مدينتي برج باجي مختار بتيمياوين، والخليل المجانبة للطريق ليست محسوبة كوجهة رسمية، مع أن سائقنا يمر على الحاجز مرة كل نصف ساعة وسيارته ممتلئة بجنسيات مختلفة، وتيمياوين تبعد عن برج باجي مختار ب160 كلم... الدركي يوقفنا، وكنت الوحيد الذي أثار انتباهه في السيارة. ''وين تسكن أنت؟''.. منحت رخصة سياقتي وتأكد من هويتي الجزائرية... ''روحوا''. سائق الأجرة تأسف لكون الخليل ليست جزائرية، وحلم عامة الخليليين هو إلحاق بلدتهم بدائرة ''البرج''، كما يسمون برج باجي مختار، ولذلك حفظوا تفاصيل ما تنص عليه القوانين الدولية في مجال تسيير الحدود.
الجنسية الجزائرية كأي سلعة
برج باجي مختار، بالرغم من بساطتها بساطة كل مدننا الصحراوية، لكنها تستقبل ما لا يقل عن 30 جنسية إفريقية، والجنسية الجزائرية تباع فيها وفي تمنراست كأي سلعة. لاكتشاف جانب من هذا العالم كان كافيا أن نتوجه إلى طاكسي يقلنا إلى رفان، لأننا قررنا عدم العودة إلى تمنراست عبر الطريق التي جئنا منها. بعد الاتفاق مع صاحب الطاكسي علينا أن نصرح بأنفسنا لدى مصالح الدرك الوطني. الساعة الثانية بعد الزوال، علينا أن ننتظر على مسافة مائة متر أو أكثر عن مدخل فرقة الدرك. وبعد لحظات نادانا أحد أعوان الدرك من نفس المسافة: ''إيييي أرجعو على الثالثة''. شعرت وكأن عسكريا كولونياليا يخاطب الأهالي... توجهت مباشرة إلى داخل المقر، سألت عن المسؤول وطلبت منه أن يسهل لنا العملية، فاستجاب دون أي إشكال. نادينا أنا والسائق باقي الركاب وعند المدخل دائما دركي آخر جالس على كرسي يصرخ ويصدر أوامر بالانصراف والدخول ووضع الأمتعة على الأرض...
بدأ تسجيل المسافرين واكتشف الدركي القائم على العملية أن السوداني الذي كان معنا وثائقه منتهية الصلاحية أو مزورة... الشاب يحمل جواز سفر أحمر، أعاده الدركي للسائق وطلب منه أن يستبدله بمسافر آخر. عند موعد الانطلاق ركب معنا السوداني ولا أدري كيف تمت تسوية وضعيته. منطقيا إذا كان الشاب لا يستطيع السفر إلى رفان فهو مهاجر في وضعية غير قانونية، ويعني هذا توقيفه على الفور... فإما الشاب كان ضحية محاولة ابتزاز، أو سلك طرقا أخرى ليحصل على رخصة السفر. وعلمنا بعدها أن سائقنا يطبق تسعيرتين: 2000 دينار للمسافرين العاديين الجزائريين والمهاجرين القانونيين، و5000 دينار لمن لا يحمل وثائق سليمة تسمح له بالسفر والإقامة في الجزائر. مررنا على العديد من الحواجز الأمنية بين برج باجي مختار ورفان ولم يتعرض السوداني لأي مضايقة. وعند وصولنا إلى رفان في حدود الواحدة صباحا، وجدنا أنفسنا في محطة للشباب الإفريقي أكثر منها للمسافرين الجزائريين. فكرت في التقرب من هؤلاء الأفارقة وسؤالهم عن جنسيتهم وظروف قدومهم إلى الجزائر وظروف إقامتهم... لكن التعب نال مني وعبارة ''لا تكثر من الأسئلة'' ما زالت مسجلة في ذهني...


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)