أمضى الركاب المتوجهون من الجزائر إلى أدرار على متن الخطوط الجوية الجزائرية بمطار هواري بومدين، ليلة السبت إلى الأحد الماضية، ليلة بيضاء بعد إلغاء الرحلة رقم 6041 المتوجهة من العاصمة إلى أدرار. حالة من الغضب والاحتجاج عبروا عنها برفع شعار "لا لحڤرة أبناء الجنوب"، مقابل تجاهل تام للجهة المسؤولة. ظروف الرحلة فندت كل مزاعم الحكومة المبشرة بانتعاش الجنوب الجزائري، وبدل الفسحة المتاحة قدمت نموذجا لخيبة كادت تتحول إلى "ثورة".شاء القدر أن نكون متوجهين إلى أدرار للمشاركة في الأيام الأدبية المنظمة سنويا في تلك الولاية الهادئة، تزودنا بكثير من الصبر والهدوء لنستقبل الصحراء، وتخلصنا من "أوكسيد" العاصمة الكربوني، لنكون على قدر سحرها وسرها.. إلا أن ما رسمته المخيلة سرعان ما تبدد مع اقتراب موعد الرحلة. لم تكن الرابعة زوالا، ساعة فرج، لأن حلمنا تأجل صعوده إلى السماء.توسمنا في السادسة والنصف خيرا، وتمسكنا بالمثل القائل "كل عطلة فيها خير" على الطريقة الجزائرية، لنبدد مزيدا من الوقت. نحن متعودون على تحويل خيباتنا إلى مثل وأحكام. شاشة التلفزيون 34 نقطة، المعلقة أينما ولينا وجوهنا تستفزنا بومضات إشهارية باللغة الفرنسية: "نجاعة، رفاهية وخدمة حسنة". وددت لو سئلت صاحب الفكرة: "هل أنت جاد؟" أو باللهجة الجزائرية: "راك في عقلك؟". الأكيد أن من ينتج هذه الومضات لا يركب مثل هذه الرحلات المتوجهة إلى مناطق سفلى، إلى حيث يشد الناس رحالهم إلى الحياة البسيطة، العادية إلى حد الموت!.مرت نصف ساعة ثم ساعة إذن، قبل أن يتفطن المواطنون أن الرحلة تأجلت الى ما بعد السادسة والنصف. فالمسافر على الخطوط الجوية الجزائرية، يصبح "مفتشا" يفضح المستور، يتوصل إلى الحقيقة بنفسه، يعرف مصيره في ذلك المساء البارد والمتعب.لم نكن ندري أن مسلسل المتاعب سيبدأ مع غروب الشمس. تحملنا ثقل الخدمات، مر الوقت بصعوبة كبيرة في قاعة انتظار غير مريحة، كراس من ألمنيوم باردة ترسل إلى الظهر صقيع تيار يجمد الأفكار. يستعصي على الواحد التغلب على الملل، الأنترنت في هذه القاعة المتواطئة مع "الآخر" لست في متناول المواطن المغبون، فالخطوط الجوية الجزائرية تضع في المتناول خدمة بسعر 250 للنصف ساعة، و1000 دج لثلاث ساعات.. ثمن يدفعه الجميع، بما فيهم الأجانب المتوجهون إلى الجنوب، يقال إنهم سياح، لكنهم على ما يبدو ندموا على المجيء إلى بلد مقطوعة أواصره مع العالم الإلكتروني ولا يتركهم يسبحون في عالم افتراضي يبقيهم أحياء. كنا في تلك الساعة متشابهين، تذكرنا أننا لم نبلغ حتى "2G" فأين أنت يا "3G"؟!.التسلية الوحيدة في ذلك الفضاء الباهت، كان المقهى الوحيد المفتوح على أكل بارد ومجمد، وقهوة وشاي وبعض الحلويات التقليدية البائتة، التي تهافت المسافرون على استهلاكها لكسر جمود المكان والزمان.الساعة 18.30، الصوت النسوي المبحوح الذي يعلن الرحلات ويدعو المسافرين إلى "الركوب حالا"، غاب ولم يدعونا للاستعداد لأدرار، ولولا خدمات المواطنين فيما بينهم لما بلغنا النبأ! تزاجم الجميع أمام مدخل المنصة، تذاكرنا في اليد اليمنى وحقائبنا الصغيرة تعثر لها عن مكان بين النساء والرجال والشيوخ والعجائز، وبكاء الرضع في الصف الطويل ألهانا عن التعب وبدد عناءنا نحن الكبار. كان الفرج قريبا، أو كدنا نلمسه أخيرا ونحن نتخذ مقعدا لنا بمقربة من جناح بيويغ 737.المشهد الاعتيادي لأي رحلة جوية كان لنا نصيب فيه، أصلا لا أحد تابع ما يقوله أو يشير إليه هذا المضيف الشاب المتصنع الابتسامة. وكأن عالم المسافر والقائمين على "خدمته" ضفتان متباعدتان، كل يسبح في فلكه؟ الحرارة داخل المركبة لا تطاق، نصف ساعة ونيف مرت على جلوسنا المتعب، والطائرة لا تريد الاقلاع. ثمة مشكل، لكن لا أحد يريد إفهامنا بما يحدث؟ لا أحد منا تصور أنه بعد برهة سيدعونا ذلك الصوت المبحوح إلى النزول. لكن ليس بعد أن تهم الطائرة بالإقلاع وتتخذ لها مسارا على المنصة، تزيد من سرعتها، وفجأة.. فرملة غير عادية؟! هل يعقل أن يكون شيئا صادف هذا الشيء الضخم في هذه الليلة الحالكة من أولها؟ توقفت، ثم انتظرنا، ثم ارتفعت الحرارة مجددا، المضيفون والمضيفات اختفوا، الكل محشور في مقدمة المركبة، لا أحد يتجول بين المقاعد يتفحص ملامحنا وهيئتنا.صوت قائد الطائرة أيضا غاب في الأفق، ترك المهمة لذلك الصوت تخبرنا أن الطائرة ستعود أدراجها.. خائبة مثلنا. السبب تقني وسيعالج حسبها أيضا، فعدنا وانتظرنا كما طلب منا ونزلنا على أساس أن الخلل سيصلح سريعا، واستقبلتنا قاعة الانتظار مجددا تفضح فراغ الخدمات في هذا المطار التابع لشركة يتيمة المشاعر، بلا أمل يرجى منها: الخطوط الجوية الجزائرية.غطسنا في سحابة دخان، الجميع أشهر سجائره، رغم اللوحة الكبيرة المعلقة وسط المكان كتب عليها: "فضاء لغير المدخين"، مشهد كئيب عبث بمشاعر بعضنا البعض. الأطفال أطلقوا العنان لبكاء سرمدي، الأمهات من شدة غيضهن انفجرن وقررن الثورة على الوضع. الآباء حاولوا إسكات صوت الألم فضموا أبناءهم إلى صدورهم. المعلومة الأخيرة لرئيس الرحلة تقول: "أنتم مؤجلون إلى العاشرة ليلا"، وذهب مستعجلا الإفلات من قبضة "الأدراريات" اللائي أمسكن بظهر قميصه: "إلى أين تذهب، لن نبقى هنا بلا تأكيد للرحلة، لما نؤجل دوما نحن سكان الجنوب؟"، ويرد: "لا أدري تعليمات من فوق تقول إنكم مجبرون على الانتظار، ربما تكون هناك طائرة شاغرة". أصوات مختلطة ترتفع: "يعني أن الصعود الى السماء لن يكون أكيدا في العاشرة"، "أين هي طائرتنا". يجيب المسؤول: "لا طائرة في الأفق"، ويهرب سريعا متحججا بمكالمة على جهاز الإرسال اللاسلكي. يجتمع الأدراريون وباقي المسافرين وقوفا، يقررون "الثورة" على التمييز الذي طالهم مرة أخرى. دون سابق إنذار حملوا أنفسهم إلى مكتب المسؤول يطالبونه بالاتصال بالإدارة. الساعة الحادية عشر ليلا، والمقهى الوحيد في القاعة يعلن فراغ ما بجعبته من أكل بارد، لم يبق سوى الماء ومشروبات غازية وبعض المقروط المعسل ومبرجة بالتمر.. قد تشحن الجسم بطاقة مؤقتة لمواصلة الاحتجاج.في غياب تام لتوضيح من إدارة الخطوط الجوية الجزائرية، قرر المسافرون إلى أدرار احتلال أرضية المطار: "لن تقلع طائرة حتى نحظى بالاحترام"، يعلن أحدهم: "لن نسكت هذه المرة عن الحق، مللنا من الحڤرة"، يردف الثاني. "حڤرتونا احنا ناس الصحرا"، تبكي سيدة أخرى خارت قواها أمام تعب طفلها الرضيع. أما الرابعة فتحدت رئيس الرحلة: "لو كنت رجلا ابق معنا الليلة ونم هنا على الكرسي البارد، مع ابني المريض". لكن الصوت الوحيد المتروك في مطار هواري بومدين الداخلي، في منتصف ليلة شتوية باردة، لم يقاوم الغضب، وآثر الرد وهو المتعب من تحمل عبء شركة بأكملها لا تحترم زبائنها.كانت الليلة طويلة، والحكايات أيضا: "يقولون إن طائرة أدرار حولت إلى وهران"، "قائد الطائرة هجر موقعه وذهب إلى الفندق"، "طائرتنا حولت إلى وجهة باريسية"، "أين سنبيت الليلة؟"، "نريد أكلا".. أسئلة لامتناهية رفعها المسافرون، حوارات جانبية بأصوات عالية بدت كاحتجاج وغضب مؤهل لانفجار أكبر. وفي غياب أي طرف مدني وإداري، سارع رجال الشرطة لتطويق الغاضبين، كان ذلك الحل الوحيد؟!عاد مسؤول رئيس الرحلة إلى قاعة الانتظار، "بخفي حني"، بلا إجابات وافية، إلا بقرار واحد يبدو أنه أرغم عليه: "سنتكفل بمبيت العائلات والنساء فقط"، متسببا في موجة غضب جديدة: "ماذا عن باقي المسافرين، الكل دفع ثمن تذكرته؟"، واستفهامات أخرى بقيت يتيمة. خارت القوى، وبدل الحل الشافي كاد المسافرون يصطدمون بين بعضهم البعض، "الأدراريون" قرروا أن يمنعوا "التمنراسيين" من السفر، وتبادل الطرفان ملاسنات، وارتفع الضغط. كل واحد مصمم على افتكاك حقه.في زاوية بعيدة عن "فوضى الأشياء"، ركنت عائلة تلملم حزنها على فقيدها، وتتأسف لتأجيل الرحلة، وعودة جثمان المرحوم إلى أرضية الجزائر العاصمة، فيما الأهل ينتظرون عودته لإكرامه في مسقط رأسه.. هي هكذا الخطوط الجوية الجزائرية، لا تحترم أحزان الناس ولا أفراحهم باكتشاف الجنوب.غادر المحظوظون المطار - وهم قلة - صوب فنادق متعاقدة مع الشركة، فيما ظل أغلبية المسافرين يفترشون الأرض الباردة، سيستلقون على كراس معدنية تحرض مزيدا من الكوابيس. والكابوس الأكبر هو أن تجد نفسك في مطار بلا وجهة محددة، بلا رغبة في رفع حجاب القادم. وبدل متعة الطيران، يصبح جناحا الطائرة شبيها برداء "دراكولا" ينذر باقتراب النهاية.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 01/12/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : نبيلة سنجاق
المصدر : www.djazairnews.info