كأن جيوشا من النمل اكتسحت جسدي كله، وأنا أجلس في الصف الأول أثناء سهرة "لينا دوران" في مدينة مدريد الإسبانية، عندما ضجت القاعة الكبيرة بالتصفيق فورإعلان لينا بأن الأغنية الموالية ستغنّيها إكراما لذكرى الشاب حسني.. فجأة لم أعد أشعر بالمكان والزمان، ولا بما ومَنْ حولي.. كيف طرتُ وعبرتُ الوقت ؟ كيف اخترقتُ الأزمنة ؟ لست أدري. !كنت هناك، في عيادة الطبيبة فريدة بحي قامبيطا، وذلك بسبب أن حليب صدري لم يعد يكفي صغيري هزار. نصحتني- أنا التي ضد الرضاعة الاصطناعية - أن أضيف مسحوق الحليب الاصطناعي إلى غذاء طفلي. تقول الحكيمة فريدة إن القلق، و"الخلعات"، وعدم الاستقرار، أسباب كافية لتُنْضِب الحليب وتجفّفه في الضروع . معها حق.. كثيرة هي " الخلعات" التي كادت أن تجفف حليب صدري وتجوّع صغيري هزار .منذ أن فُجِّرتْ سيارتُنا وما تلاها من محاولات جبانة ثانية وثالثة ، وما أصابني من ألم جراء فقدان فنانين و كتاب و أصدقاء أعزاء ( الطاهر جاووت وعبد القادر علولة و بختي بن عودة و جمال زعيتر و البروفيسور فار الذهب و رشيد بابا أحمد و عزالدين مجوبي ..) ومن رؤية المشاهد المرعبة على الشاشة والأخبار المؤلمة تنتقل شفهيا بعنف الخيال الحامل لها . كيف لا يهرب الحليب من مكامنه وكيف لا يجفّ؟ أهذا ما كانوا يرومونه ؟ ها قد حدث فعلا. فليسروا إذن !لكن حليب الضروع والصدور لم يجف تماما،لأن صوتا بهيجا خرج من حي "قمبيطا" أو "الصديقية" العريق، لشاب اسمه "حسني " متخلق طموح وموهوب وحالم، يغني للشباب وللأمل وللحب وللانكسارات الإنسانية ولجمال الروح . يغني ليملأ القلوب بالحياة. ينشد الشاب حسني الفرح على الرغم من غربان الخراب الناعقة . يغني كي يعود الأمل ويعود الحليب يملأ الضروع. إنه الشاب حسني الذي يسكن صدور الشباب مثلما يسكن الحليب صدور الأمهات .- مازال كاين لسبوار !. لم أكن من عشاق فن الراي آنذاك، ولكن ظاهرة الشاب حسني وتأثيرها السحري على الشباب من حولي أبهرتني. صديقتي حورية أستاذة في "ليسي الحياة" تزورني رفقة ابنتها، و فور دخولها تُخرج من حقيبتها كاسيت للشاب حسني وتضعها في المسجلة. حورية تجيء دوما بقليل من سمك السردين، تشْويهِ بسرعة ثم تجلس قبالتي لتطمئن بنفسها أنني أبلع آخر سمكة منه. تؤمن حورية ،وعن تجربة كما تقول ، أن لا شيء يدر حليب الأم المرضعة مثل سمك السردين. لم تكن حورية على خطأ وهي تبدأ أولا وقبل كل شيء بتفعيل المسجلة وتُسمعني أغاني الشاب حسني. الحقيقة أن حورية لا تعلم أن ليس السردين المشوي وحده الذي ملأ صدري بحليب صغيري هزار، بل هي تلك الأغاني التي كنت أستمع إليها لأول مرة بصوت حسني المقبل على الحياة والأمل وهو يردد :- مازال كاين لسبوار . !نعم يا صديقتي حورية صاحبة القلب الطيب. قد تكون لتركيبة سمك السردين أثرها ومفعولها، لكن في الحقيقة لا شيء يدر الحليب وسواقي العسل، وتنهمر له مياه الحياة جميعا أنهارا، وأمطارا، ووديانا، وبحارا، ومحيطات، مثلما يفعل "الأمل". الأمل الذي تحمله نبرات صوت حسني وتغرسه في نفوس الناس. لم أتردد يومها. دخلت أقرب محل متخصص، وجدتني لأول مرة أطلب أغنية راي ،أنا المحبة للمطربة فيروز وإخوتها .اشتريت عدة كاسيتات للشاب حسني مرة واحدة نكاية في اليأس، وفي القتلة، وفي ريحهم الهوجاء المتربصة بكل شعلة نور. صوت حسني مخيف ومرعب لمجنوني الفناء. إنه المقاومة الناعمة للعنجهية والتجبر. من قال إن الهمسات الرقيقة لا تفتتُ أوصالَ خناجر الكراهية، كما يفعل النور حين يكتسح الظلام ويعري أشباحه فتتلاشى، ترتعد فرائصها ثم تختفي ؟. صوت حسني كان بشدوهِ يطرد الأشباح من قلوب الناس ومن خيالهم.في ذلك المساء الحزين من نهاية شهر سبتمبر، كنت أنصت بجوارحي إلى أنين السماء. جفلت المدينة وجفّ الحليب في ضروعها. سمع بكاء في العمارات المجاورة من شارع خميستي، إنهن الفتيات حاملات الحلم والأمل، يصحن بحرقة بعد أن شاع الخبر مثل البرق بين سكان وهران، وبسرعة خرجن باكيات متوجهات زرافات ووحدانا نحو قمبيطا.. فرغت أوصالُ وهران من أهلها.. وهرانُ هاجرتْ نحو قمبيطا. وهران ارتمتْ في حضن والدة حسني. صارت صدرَها وأضحتْ صدراً لها .طوال المساء الوهراني الخريفي ذاك، تظاهر مجموعة من الشباب على الرغم من الخطر، ورددوا وهم يجوبون الشوارع: (حسني انتاعنا..حسني انتاعنا.. !) كانوا يتظاهرون ضد أعداء الحياة وأعداء الأرض، ويرددون بجهر ما كان يشدو به حسني بأن الأمل مازال موجودا. فجأة عدت من سهوي .أيقظتني الزغاريد القوية الحارة، والتصفيقات المموسقة على إيقاع أغنية لينا. لينا تقف كأنها سارية وهرانية تاريخية، صوتُها العذب يجر مئات الأصوات خلفها، يغنّون معها، يرددون إكراما للشاب حسني رمز الأمل :- مازال كاين لسبوار .. وعلاش نقطعوا لياس . !
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 03/10/2016
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : ربيعة جلطي
المصدر : www.eldjoumhouria.dz