رغم انّ المقولة أعلاه، تبدو إقصائيّة في ظاهرها، إلّا انّها ليست كذلك. لانّ أفلاطون الذي كتبها على باب أكاديميّته، كان يريد فقط أن لا يدخل عليه إلا أصحاب الأدلّة الرياضيّة حتّى تبقى منزلة الأكاديميّة رفيعة المستوى مثل روادها. لكنّ الإقصائيين الذين أعنيهم اليوم على النقيض من ذلك تماما. فنتيجة تصرّفاتهم وممارساتهم عموما، لا تفضي إلّا إلى تجهيل المجتمع وتقزيمه والعودة به القهقري.
من الشعارات الجميلة والمعبّرة التي رفعت، أثناء وبعد قيام الثورة التونسية التي تميّزت بسلميّتها ، شعار ''لا خوف بعد اليوم ''. فهو يختزل بحقّ نفسيّة التونسي بعد مضي خمسة عقود على تحرير الأرض من الإستعمار دون تحرير الإنسان من جبروت حكّامه. بما يعني أنّ المواطن التونسي والعربي عموما، بعد 14 يناير 2011، تاريخ هروب المجرم المخلوع بن علي، قد خرج من عقاله وإسترجع حرّيته بعد أن إنتصرعلى خوفه من السلطة وتحرّر نهائيّا من كلّ اشكال الكبت القهري التي كبّلته لعقود طويلة، كإفراز لممارسات شموليّة كليانيّة فرضت عليه فرضا تحت مسمّيات عديدة، يعرفها القاصي والدّاني، ظاهرها حقّ وحقيقتها باطل.
بمقتضى ذلك، إعتقد المواطن أنّه سيرفل بالحريّة بكافة أشكالها، إن قولا أو تعبيرا فنّيّا أو تنظّما سياسيّا أوجمعياتيّا. إلّا أنّ واقع الحال كان مغايرا لحلم المواطن، وكشّر عن أنيابه مبكّرا من خلال التصدّي بقوّة - من بعض المتربّصين الرجعيين والظلاميين- لبعض مظاهر الإبداع بتعبيراته الفنّية المختلفة؛ من مسرح وسينما ونحوهما.
فبرزت على السطح في البدء حادثة تكفير المفكّر الإسلامي الأستاذ محمّد الطالبي، على خلفيّة نعته لعائشة أمّ المؤمنين بالفجور وكذلك لاعتقاده في عدم عصمة الصحابة. وهو رأي قد يناقش علميّا ودون الحاجة لتكفير صاحبه. لا سيّما وهو قامة علميّة سامقة و متخصّص في التاريخ الإسلامي.
ثمّ جاءت حادثة اقتحام قاعة سينما (أفريكار) من قبل مجموعة من الملتحين الرّافعين لشعارات معادية للعلمانيين، منها "الشعب يريد تجريم الإلحاد"، والإعتداء على الحاضرين، ومنع عرض فيلم المخرجة التونسية الفرنسية نادية الفاني ''لا اللّه.. لا سيدي'' Ni Allah ni Maître بآعتباره تبشيرا بالإلحاد. وقد تعرّض في اليوم الموالي، وأمام قصر العدالة بالذات، عديد المحامين إلى الضرب، في سياق مطالبة السلفيين الإفراج عن إخوانهم الموقوفين على خلفيّة الإعتداء على قاعة السينما المذكورة. كما رفعت قضيّة جزائيّة ضد المخرجة. وكان ذلك مؤشّرا جادّا وخطيرا، على أفول الحلم بالحريّة والعودة إلى منطق المنع، ومظهرا من مظاهر مصادرة حقّ الآخر في التعبير بحريّة عمّا يعتقد، بصرف النظر عن اتفاقنا معه في المضمون من عدمه. ممّا ليس المجال مناسبا هنا للخوض و التوسّع والإطناب فيه.
وتلت ذلك الضجّة القويّة التي أحدثها بثّ قناة نسمة للفيلم الكرتوني'' برسيبوليس"Persepolis" أو"مدينة الفرس" الايراني المدبلج باللهجة التونسيّة، وهو الذي ينتقد بأسلوب ساخر، الأوضاع الاجتماعية والسياسية في عهد حكم الشاه، ثمّ في عهد الجمهورية الإسلاميّة التي كثّفت رقابتها الدينيّة الصارمة على كل مناحي الحياة الإيرانيّة. وفي هذا السياق جاءت الضرورة الفنّيّة لتجسيد الذات الإلهيّة الذي يعتبر دينيّا غير جائز لأنّه يمسّ من قدسيّة اللّه. فيما ترى أطراف أخرى انّه تمجيد للذات الإلهيّة مثلما أكّد ذلك الاستاذ احمد نجيب الشابّي زعيم الحزب الإشتراكي التقدّمي. وقد آل الأمر في نهاية المطاف إلى التظاهر ضد القناة وحرق مسكن صاحبها ورفع قضيّة جزائيّة ضدّه من قبل حوالي 100محام لإدانته. لا بل دعا بعضهم إلى إعدامه من أجل "تطاوله على الذات الالهية".
ثمّ تواترت الاحداث المماثلة بشكل متسارع ومتدرّج في ممارسة العنف اللفظي والجسدي على الرموز الفكريّة والثقافيّة والمتعاطين للشأن الثقافي عموما. فكانت الأحداث التي شهدتها جامعة منّوبة على إثر إتخاذ قرار مجلسها العلمي بمنع النقاب داخل الحرم الجامعي، ومن بينها، اقتحام مجموعة من السلفيين كلية الآداب والفنون والإنسانيات الراجعة بالنظر إلى الجامعة المذكورة، بعنوان الدفاع عمّا أسموه حق المنقّبات في إجراء الامتحانات، وما نتج عنه من تعطّل للدروس وتبادل للعنف وإنزال للعلم التونسي من على مبنى الكليّة وتعويضه، في حركة مجانيّة، بالعلم الأسود رمز وحدة السلفيين أينما كانوا في أرض الإسلام.
ثمّ برزت حادثة البصاق على الصحفي زياد كريشان، وضُرب الأستاذ الجامعي حمّادي الرديسي بالرأس، على خلفيّة حضورهما المساند لمحاكمة قناة نسمة ذات الخطّ التحريري الحداثي، والتي يسمّيها السلفيون "قناة نقمة..قناة الكفر و الدعارة''.
ثمّ جاءت حادثة تدنيس المصحف الشريف، وهي ضرب من ضروب العنف الفكري المسلّط على المخالفين في الرأي، فشعرالمواطن أنّه غير مطمئنّ على دينه في بلاد يقرّ دستورها القديم والقادم أنّ دينها الإسلام. وهو ما جعل هذا المواطن يطلق صفّارة الفزع والخوف من هذه الممارسات الصبيانيّة، اللاعقلانيّة التي جدّت تحت يافطة الحريّة المنفلتة أو باسم الدين. وهي في نهاية التحليل ليست سوى صنوف من العنف والفوضى وتجلّيات لها.
ثمّ جاء يوم التظاهرة الإحتفاليّة باليوم العالمي للمسرح بعنوان ''الشعب يريد مسرحا'' بالشارع الرئيسي للعاصمة. وقد تزامن مع المسيرة المندّدة بالإعتداء على المصحف الشريف بذات الشارع أي شارع الحبيب بورقيبة، ممّا أدّى إلى احتكاك الجهتين ومحاولة اصحاب المسيرة إفشال فعاليات التظاهرة المسرحيّة بتعمّد الإعتداء على المسرحيين، وهم أمام أهمّ معلم ورمز للنشاط المسرحي بتونس، ألا وهو المسرح البلدي. بما أدّى إلى إقرار منع التظاهر بشارع الحبيب بورقيبة، رمز نجاح الثورة على المجرم 'الأكبر' بن علي.وهو ما لم تستسغه أغلبيّة مكوّنات المجتمع المدني التي قرّرت العودة إلى ذات الشارع. وقد سبقهم إلى ذلك المعطّلون عن العمل، فنالوا نصيبهم من الضرب وأجبروا على مغادرة الشارع.
ثم جاء يوم الاحتفال بعيد الشهداء الذى تحوّل إلى مواجهات عنيفة بشارع الحبيب بورقيبة المحظور، حيث طورد المتظاهرون بالغازات المسيلة للدموع، وضربوا ضربا مبرّحا. وكان من بينهم نشطاء سياسيين و رموز فكريّة وثقافية ونواب يالمجلس التأسيسي وشخصيّات ذات قيمة اعتبارية في المجتمع. وقد ردّد المتظاهرون "لا خوف لا رعب الشارع ملك الشعب". وهو شعار يحيلنا إلى الشعار المشابه الذي ذكرناه مطلع المقال ومفاده انّ الشعب التونسي والعربي عموما تخلّص من الخوف وبات يشعر بحريّته رغم العنف المسلّط عليه من حين لآخر من السلطة ومن جماعات دينية معلومة.
ثم جاءت الإعتداءات العنيفة التي تعرّض لها جوهر بن مبارك أستاذ القانون الدستوري و رئيس "شبكة دستورنا"، وكاد يقتل خلالها، من طرف جماعات متطرّفة كانت رافضة لإلقائه محاضرة بولاية قبلّي، بدعوى أنّ افكاره غريبة على عادات وتقاليد المجتمع التونسي. ولم يكن ذلك سوى مظهر آخر لعقليّة إقصاء الآخر ومنعه من طرح أفكاره، ولو في إطار محدود من فضاءات المجتمع المدني، بهدف سيادة فكر واحد، ورؤية واحدة لنمط الحياة في تجلّياتها المختلفة.
ثمّ طفت على السطح المحاولات المتكرّرة من بعض أطراف الإسلام السياسي لإستهداف مؤسّسة التلفزة التونسية كمؤسسة سيادة، والتي توّجت، بعد حوالي شهرين من الإعتصام المتواصل، بالإعتداء على الصحفيين والعاملين صلبها. وبالمطالبة بخصخصتها، رغبة في تدجينها ودخولها بيت الطّاعة، بدعوى تطهيرها من بقايا رموز النظام السابق. لكنّ صحافيي المؤسّسة الذين وصفوا بأنّهم ''أيتام بن علي وبانّ إعلامهم هو إعلام العار" صمدوا وأصرّوا على ضرورة حياديتهم وآستقلاليتهم عن التجاذبات السياسيّة الراهنة، والحفاظ على خطّهم التحريري والقبول بإصلاح الإعلام لا تطهيره كما يريد المعتصمون. والفرق بين الإصلاح والتطهير واضح وجلي- ولا يحتاج إلى شرح- لكل ذي عينين وبصيرة،.
واليوم، وأنا اكتب هذه السطور،أقدم نفر من الملتحين على إستهداف الفيلسوف والاعلامي الدكتور يوسف الصدّيق ومنعه قسرا من حضور ندوة فكريّة حول الدستور والتشريع الاسلامي، رافعين في وجهه شعار''إرحل إرحل''، ومردّدين عبارات الشتم والتكفير و التهكّم إلى أن غادر فضاء الندوة مكرها، وهو يشنّف آذانه بكلمات لا تنمّ عن القبول بالآخر المختلف، من قبيل » اذهب الى قناة نسمة يا ملحد.. ياكافر..»؟؟ في إشارة إلى موقفه المساند للقناة فيما يتعلّق ببثّ فيلم "Persepolis"، ولقراءاته التاويليّة المتفرّدة وغير التقليديّة لبعض الآيات القرآنيّة وكذلك لنقده للفكر الديني السائد.
إنّ هذه الممارسات العنفيّة الهمجيّة المتخلّفة التي تهيمن على المشهد الإجتماعي والثقافي والسياسي التونسي، والتي تصدر عن هذا الطرف أو ذاك، وأحيانا تصدر عن السلطة ذاتها، تساهم في تعويق وتشويه مسار الإنتقال الديمقراطي الذي هو أحد مطالب الثورة التي ضحّى الشعب بأرواح المئات من أبنائه لينعم أبناؤه الآخرون بثماره التي من بينها، ضمان حريّة المعتقد والتفكير والتعبير، والعيش في مناخ ديمقراطي دونما خوف من أيّة جهة مهما كانت مرجعيّتها الفكريّة. ولكن ماتمّ رصده إلى اليوم من انتهاك ومصادرة للحريات لا يؤشّر على تحقيق ذلك. بل يوحي بما يشبه اليقين أنّ التونسي لم يعد مهدّدا ،فحسب، بفقدان مكسب الحريّة التي انتزعها بفضل الثورة ، بل أصبح مهدّدا، كذلك، بتدحرج مقدرته الشرائيّة بشكل جنوني نحو الصفر، جرّاء طوفان الإعتصامات التي لا تنتهي إلّا لتعود من جديد، وما يعقبها من ارتفاع للأسعار. وبإمكانية التعدّي على حرمته الجسديّة أيضا، جرّاء إعتداءات العنف المتكرّرة على أصحاب الرأي الحرّ المخالف، والتي قد تؤدّي إن إستمرّت في التصاعد، إلى العنف الدموي وربّما إلى الإقتتال الداخلي بما يشبه الحرب الأهليّة بشكلها الصومالي. وهو ما سنتصدّى له بشتّى أشكال النضال السلمي لنحول دون تحقيقه. كلّفنا ذلك ما كلّف. وهي رسالة واضحة لكلّ من يصطاد، أو تحدّثه نفسه أن يصطاد، في الماء العكر. ذلك الماء الآسن الذي شجّع العهد البائد على السباحة فيه بكل حريّة ودون الخوف من المساءلة والعقاب على قدر الجرم.، مثلما يقتضيه القانون. ولكنّه عهد ولّى وانقضى ولن يعود مهما حلم الحالمون المصابون بالشيزوفرينيا السياسيّة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 09/05/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : المهندس فتحي الحبوبي
المصدر : www.eldjoumhouria.dz