الجزائر

ذكرى المولد النبوي بحي القصبة العتيق...



تعود هذه السنة في مثل هذا اليوم المبارك ذكرى مولد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وهي الذكرى التي اعتاد المسلمون منذ قرون على الاحتفال بها بتلاوة السيرة العطرة لمولده عليه الصلاة والسلام، وذكر الله وإطعام الطعام والتصدق بالصدقات حُباً في النبي المصطفى وإحياء لسيرته العطرة. لكن مثل هذه العادات تقلصت كثيرا وطغت حاليا مظاهر إحياء هذه الذكرى الكريمة بالمفرقعات التي أطلقت عليها أسماء على نحو''الشيطانة'' و''التي آن تي'' وغيرها من الأسماء والأشياء المبتدعة التي تضر أكثر مما تنفع..كانت مظاهر الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في القصبة العتيقة، أقدم أحياء العاصمة الجزائر، تبدأ قبل حوالي شهر من حلول المولد النبوي، فتقوم النساء بتزيين المنازل والشرفات بباقات الياسمين التي تكون زينة للناظرين، بينما يلفت نظر المار عبر أزقتها الضيقة أنها معبقة بروائح الطيب والبخور المنبعثة بكثافة من المنازل ومحلات الأدوات التقليدية المنتشرة هنا وهناك. ومن تلك العادات أيضا تحضير الأطباق والحلويات التقليدية فيما يعرف بالوزيعة مع ترديد المدائح النبوية والصلاة والسلام على النبي محمد، والأهم إشعال الشموع على شرفات المنازل وفي أسطح البنايات.. تلك هي أبرز ما كان يميز احتفالات الجزائريين بذكرى المولد النبوي الشريف خلال الحقبة العثمانية، والتي ما يزال بعض من تلك العادات ثابتة إلى اليوم، وتدخل ضمن تقاليد مجتمعنا في أحياء هذه العادة أو تلك، بحسب الأستاذ والباحث في تاريخ الجزائر القديمة ومسؤول الاتصال بقصر عزيزة بالقصبة السيد محمد بن مدور في لقاء خاص مع ''المساء''.
عادات مستمرة منذ العهد العثماني
يقول الأستاذ الذي طرحنا عليه موضوع الاحتفال بالمولد النبوي في أقدم حي بالعاصمة المرتبط اسمه بأجمل عادات الجزائريين وأرقاها وهو القصبة، فراح يسترجع عادات قديمة بتفاصيلها بما يوحي لك وكأنه عايش تلك اللحظات وذلك الزمن الجميل بتقاليده العريقة.
سرد علينا محدثنا تفاصيل إحياء الجزائريين لذكرى خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام بأيام طويلة قبيل اليوم المبارك فقال:''لقد وقع تحول كبير فيما يخص الاحتفال بذكرى المولد النبوي بين الأمس البعيد واليوم، ولكن ما تزال بعض المظاهر موجودة، ومنها إشعال الشموع على الشرفات وفي الأسطح، وهي العادة التي كانت سارية في العهد العثماني لدى الأسرة الجزائرية، بحيث كانت تقوم النساء بإشعال الشموع بأيام قبيل موعد المولد النبوي، ويضعنها على أسطح البنايات حتى تغدو القصبة في الليل كالنجوم المتلألئة في السماء، وكن كذلك يشعلن الشموع على عتبات المنازل 24 ساعة قبيل ذكرى المولد، هناك تقليد يقام في هذه الذكرى الشريفة أيضا وهو قيام العائلات بذبح ثور، ثم تقام عادة الوْزيعَة على جميع السكان، وكذلك على عابري السبيل والمحتاجين وغيرهم، وللأسف هذه العادة زالت تماما إلا في مناطق معزولة بالوطن وبين أسر محددة، وهذا المسح للعادات المتوارثة عن الفترة العثمانية جرى بعد الاحتلال الفرنسي والتفريق الذي وقع بين الأسر والعائلات. وكانت كذلك من بين المهام الموكلة للنساء والصبايا، إعداد الحلويات التقليدية ومنها التشاراك العريان، وحلوى الطلية وطبعا إعداد الكسكسي، وهذا بعد طلاء المنازل''.
ويسترسل الأستاذ بن مدور حديثه عن إحياء عادات القصبة العتيقة في إحياء المولد النبوي بالحديث عن عادة جلب الماء لكسر عين الحسود من ثلاثة منابع للماء في اليوم قبيل المولد الشريف، فكانت تقصد النسوة المقابر لزيارة الموتى وكانت العادة تقتضي منهن حمل الماء لسقي قبور الموتى، ولكن الماء لا بد أن يجلب من ثلاث عيون ماء وهذا أساسي إذ تقوم بملء الدلاء من المنابع الثلاثة، ثم يقسم الماء المملوء إلى نصفين؛ الأول يُرش به البيت أثناء عمليات التنظيف والشطف والحكمة منه إبعاد العين والحسد، والنصف الثاني لسقي القبور، ومن عيون الماء المعروفة والتي ما تزال موجودة عين سيدي عبد القادر الجيلاني، وعين سيدي عبد الرحمان وعين سيدي امحمد الكبير، أما المقابر فكانت موجودة خارج أسوار القصبة. وهذه الأسوار أيضا كانت تُطلى بالأبيض من الداخل.
ويوم المولد تقوم النساء بارتداء اللون الأبيض ثم يقصدن الزوايا؛ كزاوية سيدي عبد الرحمان، ويقمن بما يسمى ''الحضرة'' للذكر والترتيل والصلاة على النبي، ويأخذن الخبز المحضر بالبيت مع التمر لتوزيعه على الحضور بالزاوية، وبعدها يقوم القائمون على كل زاوية بذبح ثور أوكباش لتحضير الكسكسي وتوزيع الأطباق على الجميع، ومنهم بابا سالم الذي كانت تعهد له مهمة جمع المال والصدقات من المحسنين، ومن بعدها يقوم الأعيان بتوزيع الصدقات على المحتاجين.
ولم تكن مهمة إحياء مولد خير الأنام موكلة للنساء دون الرجال، فهذه الذكرى كانت بمثابة عيد عظيم المعنى والكل مجند لإعداد الاحتفالات به، ومن بين مهام الرجال نذكر إعادة طلاء المساجد، حيث كانت تصبغ عادة باللون الأخضر وطبعا تزين الأعمدة أو ما يعرف ب''العْرَس'' بالخيزران، وكانوا يغسلون الحصائر قبل المولد تحسبا لإقامة حلقات الذكر والترتيل وترديد الصلوات على النبي المصطفى. وفي ليلة المولد النبوي الشريف، يغادر الرجال منازلهم نحو المساجد للابتهال والاستماع إلى المدائح النبوية وحضور حفلات الختان التي يفضل الجزائريون إجراءها لأطفالهم في هذه المناسبة المباركة.
مفرقعات تفسد الفرحة
وإذا كانت احتفالات الشعب الجزائري بعيد المولد النبوي مسألة تبعث على الفرح، إلا أن المبالغة في مظاهر الاحتفال تكاد تفقد هذه الذكرى السعيدة معانيها السامية، فآلاف الأطنان من المفرقعات أصبحت تغزو الأسواق وباعة الأرصفة قبل حلول المولد بعدة أشهر، حيث يبدأ لعب الأطفال بالمفرقعات قبل شهرين من حلول الذكرى، ومع اقتراب يوم المولد النبوي تصبح الشوارع جحيماً لا يطاق في غياب الرقابة فيما يخص استخدام المفرقعات، بالرغم من الأضرار الجسدية التي قد تنجم عن ذلك، وخير دليل اكتظاظ أقسام العيون بالمستشفيات بالمئات من الإصابات كل عام، بسبب المفرقعات التي يرجع الأستاذ بن مدور تفشيها إلى هجوم من كل النواحي وقع للمجتمع الجزائري في عادات اللباس والأكل وحتى في إحياء الأعياد بما في ذلك استعمال المفرقعات التي يصح فيها المثل القائل ''المال الذي يذهب مع الدخان''..


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)