الجزائر

ذات يوم كانت الثورة


 لا يزال بعض الجزائريين من الأجيال الجديدة فخورين بثورتهم التحريرية، خاصة أولئك الذين يقدرون معنى أن يواجه رجال لا سلاح جيد لهم سوى إرادتهم، ولا قائد بصير لهم سوى رغبتهم في الحرية، ومع ذلك قهروا جيشا مسلحا بعقيدة استعمارية وتربية عسكرية مدعومة بآخر منتجات قهر الشعوب في ذلك الوقت.
دعونا نتأمل هذه اللحظة التاريخية المثالية بحياد من لم يعرف المتاجرين بها بعد الاستقلال؟!
أولا: الذين خططوا للثورة وقاموا بها لم يكونوا عباقرة ولا مثقفين من طراز رفيع ولا خريجي أكاديميات عسكرية شهيرة، كلهم جاؤوا من الشوارع الخلفية للتاريخ، لم يكونوا مشاهير ولا زعماء، كانوا شبابا أغلبهم لا يتعدى سنّه الخامسة والثلاثين، فلاحين أبناء فلاحين، كل علمهم تحصلوا عليه من شعبهم في الشارع وخبرتهم في الحياة تحت قهر الاستعمار.
ثانيا: كانوا مختلفين في الكثير من الأشياء لكنهم متفقين جميعا على تلك النصيحة الثمينة التي قدمها فرحات عباس لمصالي الحاج: ''فرنسا لن تعطيك شيئا، وهي لن ترضخ إلا للقوة، ولن تعطينا إلا ما نستطيع انتزاعه منها''. وقد عزموا على انتزاع استقلالهم بالقوة، وبالتالي تَرفَّعوا على خلافاتهم وعواطفهم الشخصية.
ثالثا: كانت قوة تلك المجموعة الصغيرة ليست في زنودها ولا في الأسلحة التي يمتلكونها. بل في أهدافهم الواضحة وعزيمتهم على تحقيق تلك الأهداف مهما كان الثمن.
رابعا: لم يكن أحد منهم يطمع في زعامة ولا ينتظر نياشين البطولة، أو امتيازات دنيوية... كانوا يأكلون وينامون ويحاربون مع جنودهم البسطاء، وكل ما يتمنونه في اعتقادي أن يموتوا شهداء في سبيل الجزائر ويفوزون بالجنة.
خامسا: لم تكن الظروف المحيطة بهم مؤاتية وسهلة، كانت في غاية الصعوبة، وأغلبهم كان قد ذاق مرارة السجن والجوع والأعمال الشاقة ومخاطر العمل السري، ولكن نفوسهم التوّاقة للحرية كانت تذلل المصاعب وتتفوق عليها.
أولئك الشباب الذين حاولت الآلة الإعلامية الجهنمية لحزب جبهة التحرير، فيما بعد، تقديسهم وتحويلهم إلى أساطير لتحقيق أغراض مشؤومة، كانوا شبابا عاديين، نشطين في أحزابهم ومنظماتهم، يعيشون مع شعبهم في الشارع ويقاسون مثله كل أنواع البطش والقهر والتمييز الاستعماري، تمر عليهم مثلما تَمُرُّ علينا جميعا لحظات قلق وخوف وتوتر وخلافات بينهم، ولكنهم كانوا متفقين على المبدأ والهدف، يتميزون جميعا بإرادة قوية، وتصميم لا ينثني وإنكار للذات يشبه إنكار الأنبياء... لا أحد منهم يتّكلُ على الآخر ولا أحد منهم يتكاسل عن أداء المهام المكلف بها. ولا أحد منهم يضيّع وقته فيالثـرثرة... كانت كلمتهم واحدة العمل... والنجاح الباهر الذي يفخرون به أن يلتحق شاب جديد بفكرة الثورة.
صحيح، هناك الكثير من التساؤلات التي تبقى الإجابات عنها أشبه بالمعجزات، مثل ذلك الوعي المبكر بالقضية الوطنية ودور مثقفي الحركة الوطنية في ذلك؟ أو كيف تمكّن أولئك الشباب المحدودي الثقافة أن يقوموا بتلك الحرب النفسية الشرسة بموازاة حرب السلاح لتدمير المواقع الاستعمارية في نفوس الجزائريين.. أو حتى كيف مات ذلك الوعي وتلك التعبئة الوطنية مع آخر رصاصات وقف إطلاق النار؟! تساؤلات عديدة لم تعد الإجابة عنها ممكنة لأن أغلب حملة السلاح في الثورة التحريرية (ولا أقول الثوار!؟) تحولوا إلى تجار بالقضية وفقدوا كل مصداقية في نظر الأجيال الجديدة.
لكن ذلك الجيل العظيم كان يعمل، وهب نفسه لفكرة امتلأت بها روحه، لم يضيّع جهده في الثـرثرة في صالونات الخمس نجوم، بل أن التاريخ لم يحتفظ منهم سوى بعبارات قليلة لكنها تملأ كتبا بمعانيها. كانت صرخة زيغود يوسف: الآن يتكلم البارود... بمثابة اختراع لغة جديدة للشعب، كانت الصاعق الحربي الذي أشعل الجزائر من أقصاها إلى أقصاها. وكانت عبارة العربي بن مهيدي: ''ارموا الثورة في الشارع وسيحتضنها الشعب'' برنامج عمل أمة بكاملها... وكان على التاريخ أن يدفع بهؤلاء الشباب إلى مقدمة عصرهم لأنهم كانوا في مستوى اللحظة التاريخية التي يعيشونها.هذا النوع من الشباب هو الذي ننتظره الآن على قارعة التاريخ لقيادة التغيير في هذا البلد.


   aghermoul@hotmail.com
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)