يحفل التاريخ الزياني بالكثير من القضايا والإنعطافات التي ما زالت بقعة من بقع التاريخ المنسي، فعلى الرغم من تصاعد الدراسات الكثيرة في حقل التاريخ الزياني خلال هذين العقدين الأخيرين، لا تزال بعض القضايا الخاصة بهذا التاريخ بعيدة عن مناطق الضوء، ومن هذا القبيل الدور الذي كانت تضطلع به الشرطة في عهد الدولة الزيانية؛ إن هذا الموضوع لم يشغل سوى مساحة قليلة في الإسطوغرافيا المغربية الوسيطية، كما أنه لم يحظ بإلتفاتة علمية تذكر من قبل الباحثين والمهتمين بتاريخ بني زيان من خلال دراسته دراسة مستقلة تستوفي جميع الشروط باستثناء بعض الإشارات الخفيفة عنه أثناء الحديث عن تاريخ الدولة الزيانية بصفة عامة، ينهض دليلا على ذلك ما كتبه الدكتور عبد العزيز فيلالي حول "تلمسان في العهد الزياني" وما كتبه عطاء الله دهينة حول "المملكة العبد الوادية في عهد أبو حمو موسى الأول إلى أبو تاشفين الأول"٠ قد يفسر هذا الإقصاء من دائرة اهتمامات الباحثين والمؤرخين بشح المادة التاريخية في المقام الأول، ذلك أن المصادر التاريخية الزيانية ضربت صفحا عن ذكر أخبار خطة صاحب الشرطة ودوره في حفظ الأمن والنظام والآداب العامة، باستثناء إشارات شاحبة وردت بكيفية عفوية في هذه المصادر، وقد يكون السلطان أبو حمو موسى الثاني (توفى سنة 791هـ) في كتابه "واسطة السلوك في سياسة الملوك" قد خرج عن قاعدة الإقصاء في الوصية التي دوّنها لإبنه من بعده عن دور صاحب الشرطة بقوله: "ثم يدخل صاحب شرطتك وحكام بلد حضرتك ليخبرك بما يريد في ليلتك، ولا يخفي عليك شيء من أحوال رعيتك، وبلدك مع ضبط مملكتك، فتسأله عن القليل والكثير والجليل من الأمر والحقير، لئلا يتوصل أهل العناية للرعية مضرة ولا أذية، ولا يقع من الحاكم جور في بلد ولا ظلم لأحد، فإنه إذا علم الحاكم أو غيره من أهل العنايات وأهل الدعاوى والجنايات بأن الملك، لا يغيب عنه شيء من أحوال بلده فيمتنع كل منهم من اسطالة يده، فيقف الناس عند حدودهم"٠
تأسيسا لهذه الملاحظات المصدرية سنحاول تناول موضوع الشرطة ودورها في استتباب الأمن بالمغرب الأوسط في فترة محددة وهي مرحلة الزيانيين (ما بين القرنين 7ـ9هـ / 13ـ15م) محاولين تعقب السؤالين التاليين
كيف كان حال الوضعية الأمنية في العهد الزياني؟٠
ما هو دور السلطة المركزية في استتباب الأمن داخل ربوع الدولة؟٠
كانت الشرطة من النظم الإدارية التي عني بها الزيانيون، وقد ورثت الدولة الزيانية مثل جيرانها هذه الخطة عن الموحدين، بحيث كانت مهمة صاحبها حفظ الأمن والنظام والآداب العامة، وتتبع الجرائم وإقامة الحدود، وقد أعطاها الزيانيون عناية خاصة إلى جانبي الحسبة والمظالم، وكان لا يتولى خطة صاحب الشرطة إلا من اتصف بالصلابة والحسم في الأمور الشرعية والسياسية حسب تعبير ابن خلدون، وإذا كانت المصادر الزيانية قد سكتت عن إفادتنا بالفترة الزمنية التي نشأت فيها هذه الخطة، فإن الأكيد أن استفحال ظاهرة اللاأمن في بلاد المغرب الأوسط خلال العهد الزياني هو الذي دفع سلاطين بني زيان للتفكير في إنشاء خطة صاحب الشرطة حرصا منهم على تصفية عناصر الشر والفساد والجريمة واللصوصية داخل مدن الدولة، وإن كتب النوازل تجيب عن الكثير من التساؤلات المتعلقة بدفع الفساد وتأمين السبل لتؤكّد انعدام الأمن خلال هذه الفترة من ذلك ما يتضح من جواب الفقيه قاسم العقباني لمرابط يستفسر عن الإقامة في مواضع كانت سابقا بيد أهل الفساد وذلك بقوله "الحمد لله، إنّ إقامة هذا المرابط بهذا الموضع... من باب إعانة اللهفان، ودفع الفساد عن أهل الأمان، وما أعظم المثوبة في ذلك وما هذا إلا جهاد عظيم، وشرف دائم مقيم..." ، كما كان يظهر انعدام الأمن خلال هذه الفترة في خطر الكثير من القبائل التي كان يحترف قطاع كبير منها اللصوصية وقطع الطرق، ويبدو ذلك من خلال الحوادث المتكررة لهجمات أولئك اللصوص على قوافل التجار والمسافرين وفي نقاط مختلفة من بلاد المغرب الأوسط، وهذا ما جعل ظاهرة إنعدام الأمن هي السائدة، ومما جاء في وصف العبدري للمرحلة المؤدية إلى تلمسان انطلاقا من أراضي المغرب الأقصى قوله " ولما انتهينا إلى المفازة التي في طريق تلمسان، وجدنا طريقا منقطعا مخوفا لا تسلكه الجموع الوافرة إلا على حذر واستعداد، وتلك المفازة مع قربها من أضرّ بقاع الأرض على المسافر لأن المجاورين لها من أوضع خلق الله وأشدهم إذابة، لا يسلم منهم صالح ولا طالح، ولا يمكن أن يجوز عليهم إلا مستعد يتفادون من شره، وطلائعهم أبدا على مرقب لا يخلو منها البتة"٠
ويصف لنا أبو العباس أحمد المعروف بالمريض وهو من المغرب الأوسط من خلال سؤال مؤرخ سنة 796 هـ إلى شيخه الفقيه أبي عبد الله بن عرفة ولأهمية هذا النص ارتأينا أن نبته كما ورد مختصرا عند المازوني قائلا "سيّدنا أمتع الله بكم من مسألة، وهي جماعة من مغربنا من العرب تبلغ ما بين فارسها وراجلها قدر عشرة آلاف أو تزيد ليس لهم حرفة إلا شن الغارات وقطع الطرقات على المساكين، وسفك دمائهم وانتهاب أموالهم بغير حق... ثم مع ذلك لا تأمن الرفاق من جانبهم، نصبوا الغارات على هذه البلاد التي نحن فيها، وقتلوا من عاجلوه وقطعوا الطرقات..."٠
لقد هيأت ظروف القهر الاقتصادي والاجتماعي المجال أمام استفحال ظاهرة اللاأمن في ربوع بلاد المغرب الأوسط خلال العهد الزياني، ومن القرائن الدالة على ذلك أن قلة المواد الغذائية الناجم عن المجاعة التي أصابت تلمسان سنة 776هـ/1373م، اضطر ابن قنفذ القسنطيني أن يقيم في تلمسان لانعدام الأمن في المسالك والطرق بسبب هذه المجاعة، ويذهب ابراهيم حركات في هذا الاتجاه حين يؤكد أن قطاع الطرق واللصوص ينشطون خصوصا في سنوات الجدب والمجاعة بسبب تفريط السلطة في اتخاذ وسائل العلاج الاقتصادية والأمنية فخلال سنوات من حكم السلطان يغمراسن بن زيان (633ـ681هـ/1235ـ1282م) وعلى إثر حملة السلطان المريني أبي يعقوب سنة (670هـ/1270م) وحصاره لمدينة تلمسان "كثر نهب القبائل فخرجت قبائل توجين التي كانت مناوئة للسلطة المركزية الفرصة وراحت تعمل للنهب والتخريب بجهات تلمسان "فقطعوا الثمار، ونسفوا الآبار، وخرّبوا الربوع، وأفسدوا الزروع ولم يدعوا بتلك الجهات قوت يوم حاشا السدرة والدوم"٠
لقد عانت الدولة الزيانية من أهوال الغزو الخارجي وزعزعة الأمن لفترات تطول غالبا أكثر من فترات السلم بالنظر لكثرة الفتن والصراعات وما يتبع ذلك من أعمال تخريبية واعتداأت على الأرواح، وكانت تلمسان تعد من أهم مدن المغرب الأوسط المعرضة باستمرار لهذه النكبات، ومما يذكر في هذا الصدد أن السلطان المريني أبو الحسن عندما تمكن من اقتحام مدينة تلمسان في 27 رمضان سنة 737هـ وقتل السلطان أبو تاشفين عبد الرحمن الأول (718ـ737هـ)، انطلقت أيدي النهب على البلد فلحقت الكثير من أهله معرة في أموالهم وحرمهم..."٠
وبالرغم من أن بعض المصادر قد وضعت المجتمع الزياني بأنه كان ينعم بالحياة الاقتصادية الميسورة، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الفئات الاجتماعية الأكثر حرمانا والعاطلة عن العمل من تهديد الأمن داخل مدينة تلمسان ووصفهم أحد الباحثين المحدثين باللصوص والشحادين في أروقة المدن، ويرد أحد الباحثين أن ظاهرة اللصوصية وغياب الأمن داخل المجتمع التلمساني في العهد الزياني مرده النزوح المستمر نحو العاصمة تلمسان، وقد أزعجت هذه الظاهرة محمد بن مرزوق الخطيب فعبر عنها قائلا: " تلمسان كثر فيها المنكر وقلّ فيها الحلال"، ويضيف بأن قاضي وإمام مسجد درب مرسى الطلبة بمدينة تلمسان كان قد أمر بأن لا يخرج الصبي من دربه، إلا برفقه والده أو أحد أقاربه خوفا عليه من المنحرفين والسراق وبالتالي من انعدام الأمن داخل المدينة في بعض الأحيان٠
بناء على ذلك نعتقد أن انتشار ظاهرة اللصوصية التي أدت إلى تهديد الأمن داخل الدولة الزيانية، لم تكن سوى إفرازا للأزمات التي مرت بها وانعكاسا للتمايز الاجتماعي الذي تمخض عنه بروز تناقضات اجتماعية، وقطاعات غير قادرة على تحصيل عيشها عاجزة عن الإندماج في عملية الإنتاج
أمام هذه الوضعية، ماذا فعلت الدولة الزيانية من أجل استتباب الأمن داخل مدنها؟٠
لا شك أن سلاطين بني زيان قد عينوا بإقرار الأمن داخل ربوع الدولة التي كانوا يديرون شؤونها لمدة ما يزيد على ثلاثة قرون. ومن أجل ذلك أكثروا من تشيد الأسوار والأبراج والقلاع ضمانا لحماية متكاثفة للمدن والضواحي، كما عمدوا إلى الإعتماد على الشرطة في حفظ الأمن، لقد قامت الشرطة في العهد الزياني بدور كبير وحاسم في تطبيق الأحكام الصادرة عن القاضي وصاحب المظالم، يظهر ذلك جليّا في عهد السلطان أبو حمو موسى الثاني بحيث أكد لإبنه من بعده بالإعتناء بهذه الخطة عن طريق مساءلة صاحب الشرطة في كل ليلة ما يقع داخل البلد من صغيرة وكبيرة حتى يتجنب الظلم والجور وكان أبو حمو موسى الثاني قد قلد هذه الخطة لموسى بن يخلف الذي كان عينا له وعليه في نفس الوقت فقد تواطأ مع ولي العهد أبي تاشفين الثاني على قتل يحي بن خلدون الكاتب الخاص لأبي حمو موسى الثاني وكان الولاة يقومون بمساعدة صاحب الشرطة في تأدية مهامه لكن كان صاحب الشرطة في العهد الزياني ينظر في أحكام الجرائم ابتداء ثم تنفيذ الحدود الخاصة بها، وكانت الحدود تطبق بصرامة كبيرة، بل إن الزيانيين جعلوا للأسواق شرطة خاصة بها ينفذ صاحبها أحكام المحتسب والقاضي في عين المكان لأن الحياة اليومية وأسعار الأسواق وما يتعلق بها من غش وأخطار لا تحتمل المسطرة القضائية ومن أجل تطبيق القوانين الصادرة عن القاضي شيد بنو زيان لهذا الغرض عدة سجون حسب أنواع السجناء وطبقاتهم، وربما كان للمجرمين سجن خاص بهم وللمعتقلين السياسيين والرهائن سجنهم فالنصوص الزيانية تشير إلى وجود عدة سجون في مدينة تلمسان، واحد بالقرب من سوق السراجين، والثاني بالقصبة، والثالث بدويرة بقصر المشور وغيرها وكانت حماية الطرق تحظى كذلك بعناية سلاطين الدولة الزيانية ،إذ كانت هناك مؤسسة جهوية كلما اقتضت الظروف إقامتها وتدعي ولاية الطريق وعملها شبيه بأعمال مؤسسة الشرطة الحديثة، ومسؤوليتها الرئيسية، المحافظة على أمن المسافرين وأمتعتهم والتدخل لردع اللصوص والقطاع وإقامة مراكز الاستقبال والتموين، إن الشرطة في العهد الزياني قامت بدور كبير في الحفاظ على الأمن داخل ربوع الدولة الزيانية وهذا الدور الذي اضطلعت به لم يكن لو لم يحرص سلاطين بني زيان على ذلك، واكتسبت خطة صاحب الشرطة في العهد الزياني خصوصية ميزتها عما كانت عليه عند الحفصيين أو المرينيين حيث أصبحت مقننة من خلال وصية أبي حمو موسى الثاني التي يذكر فيها " فتسأله (صاحب الشرطة) عن القليل والكثير والجليل من الأمر والحقير... لئلا يتوصل أهل العناية من للرعية مضرة ولا أدية...) وبهذا يكون السلطان أبو حمو قد أكد على ضرورة مساءلة صاحب الشرطة فيما يقع من أحداث داخل الدولة ووجوب اتخاذ جميع التدابير من أجل الحفاظ على الأمن حتى لا يلحق بالرعية أي أدى، وبالتالي جعل من خطة صاحب الشرطة مسألة خاصة بالرعية٠
لهذا اضطلعت الدولة الزيانية بمهمة حفظ الأمن داخل مدنها، وكان إصرارها كبيرا في ذلك، وربما يأتي هذا الحرص منها، لأن قضية الأمن ظلت تشكل هاجس السلطة في بلاد المغرب الأوسط، لقد قام بنو زيان بتوفير كل وسائل الراحة والإطمئنان بالنسبة لسكان الدولة فتمكنوا من حماية الطرق التجارية، وإقرار الأمن داخل ربوع الدولة رغم ما كانت تتعرض له هذه الدولة من محاولات لزعزعة الأمن بداخلها، وبفضل السياسة الأمنية التي طبقها حكام بنو زيان فإن الدولة الزيانية كما يقول الأستاذ عبد الحميد حاجيات ظلت تنمو وتزدهر حتى دب فيها الضعف في القرن التاسع والعاشر٠
مقتطف من "دور الشرطة في استتباب الأمن بالمغرب الأوسط " العهد الزياني نموذجا"٠
د. خالد بلعربي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة سيدي بلعباس
تاريخ الإضافة : 02/03/2020
مضاف من طرف : tlemcen2011
المصدر : yaghmoracen.over-blog.com