الجزائر

خطة الحسبة



تعتبر خطة الحسبة، من أعظم الخطط الدينية، تشارك القضاء في بعض مظاهره(160)، وهي واسطة بين خطة القضاء وخطة الشرطة عند المجليدي(161). وبينها وبين المظالم عند الماوردي(162)، وهي خادمة لمنصب القضاء عند ابن خلدون(163)، جمعت بين النظر الشرعي الديني والزجر السياسي السلطاني(164).
ومهمة المحتسب حماية المجتمع، من الظواهر السلبية ومكافحة الآفات الإجتماعية، حسب المبادئ الأساسية للإسلام وهي ''الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر''(165)، ويساعد المحتسب أعوان ومساعدون يقلون أو يكثرون حسب الحاجة، وما يتطلبه وضع السوق والحالة الاجتماعية بشكل عام، ويقدم على أهل الأسواق، أمناء مشهور بالثقة، والنزاهة ويقوم المحتسب بطبع المكاييل والموازين بميسم معلوم عنده، ويأمر الخبازين بصنع طوابع لهم تحمل أسماءهم، يطبع بها كل واحد منهم رغفيه حتى يتميز عن غيره(166)، وكان المحتسب يتولى مراقبة الأسواق في غالب الأحيان بنفسه أو يتخذ أعوانا له(167)، وإذا كلف أخدهم بمهمة قصد المبيعات والمصنوعات، فإنه لا يكلف بصفة دائمة وإنما يقوم باستبداله من حين لآخر، تفاديا لما يحدث بينه وبين التاجر أو الصانع من اتفاق(168).
وكان المحتسب يتجول على دابته، محاطا بأعوانه، يحمل معه ميزانه الذي يزن به البضائع التي يشك في وزنها(169)، وإذا ارتاب في دكان أو مصنع يبعث إليه صبيا أو جارية للشراء منه، ثم يختبر المشتري فإذا وجد به غشا، تعرض لصاحب الدكان أو المصنع بالعقوبة المنصوص عليها، بالتوبيخ والزجر أولا، وبالسجن والإنذار ثانيا، وبالضرب والتشهير ثالثا، وبالتنكيل والنفي من السوق والبلد رابعا، وهي أقصى درجات العقاب(170).
ويمكن حصر اختصاصات المحتسب وصلاحياته، في ميدان المراقبة والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، في الأسواق والساحات العامة في المحاور التالية:
أولا: التجارة والصناعة(171).
ثانيا: الأسواق والطرقات(172).
ثالثا: النساء والمخنثون(173).
رابعا: الحمامات والآداب العامة(174).
خامسا: الصلاة والأخلاق(175).
سادسا: في التربية والتعليم(176).
ومهما يكن من أمر، فإن ما تجدر الإشارة إليه هو، أنه من الصعب أن يلم الباحث، بأهم أعمال المحتسب، ومراقبته اليومية لأسواق مدينة تلمسان في العهد الزياني، لانعدام الوثائق والنصوص التي سكتت عن تزويدنا، بتفاصيل واضحة، ودقيقة عن سير الاحتساب في هذه المدينة، وهذا ما جعلنا نعتمد على المادة الخبرية التي تضمنتها كتب الفقه والنوازل والحسبة والرحلات، التي تعالج هذا الموضوع وغيرها من قريب أو بعيد، في بلاد المغرب بصفة عامة، لاسيما وأن هذه الكتب في أغلبها لا تحد هذه الظواهر، التي عرفها المجتمع المغاربي، بالزمان والمكان إلا في القليل النادر، مما يجعلها صالحة وجاهزة للتوظيف. ويؤكد أن مهمة المحتسب، وشروطه وصلاحياته واحدة، وأن الظواهر السلبية، التي كان يتصدى لها متشابهة، في كل الأقطار المغاربية.
ومن الغرابة بمكان أن تصمت المصادر الزيانية،عن إعطائنا أسماء لأهم المحتسبين الذين تولوا خطة الحسبة في مدينة تلمسان، وبقي علينا أن نترجي، معرفة ذلك من المصادر التي يمكن الكشف عنها في المستقبل.
بالرغم من ذلك، فإن نظام الحسبة، في مدينة تلمسان، كان قائما في العهد الزياني، مثل غيرها من العواصم المغربية، تؤكد ذلك بعض الإشارات التي وردت في النصوص الزيانية.
وتتمثل هذه الإشارات في الوصية التي تركها السلطان أبو حمو موسى الزياني الثاني، لابنه أبي تاشفين الثاني، والمدونة في كتابه ''واسطة السلوك''، بحيث أكد عليه بأن يعتني بهذه الخطة وبأصحابها(177)، ويؤكد على وجود هذه الخطة اهتمام سلاطين بني زيان وحرصهم على وضع مكاييل وموازين نموذجية، بأسواق المدينة حتى يلتزم بها التجار في معاملاتهم مع الناس(178)، ويتجلى ذلك في مقياس الذراع، الذي أمر به السلطان أبو تاشفين الأول سنة 728ه،/1328م، وبتعليقه في سوق القيصارية بتلمسان(179)، وكان الصاع القديم في تلمسان يعرف أيضا بالتاشفيني، ثم عرف باسم الوهراني، وهو الذي كان يأخذ به الناس في عصر قاسم العقباني، أي في القرن التاسع هجري(180).
ومن آثار الحسبة في مدينة تلمسان، مادونة قاضي الجماعة، الفقيه قاسم بن سعيد العقباني (تـ854/1450)، عن غش الخبازين لرغيفهم بتلمسان(181). وكان المحتسب يتغاضى عن أصحاب الأفران لأنهم يؤدون له الرشاوي(182).
كما كشف العقباني أيضا، عن بعض العادات السيئة، التي كان يمارسها بعض الجزارين في مدينة تلمسان، إذ كانوا يقومون بغش اللحم، وخلطه بالكرشة المصران أو الشحم(183)، على قدر كثرة الثمن وقلته، وعلى حسب حال المشتري ووضعيته الاجتماعية(184).
ومن العادات المذمومة أيضا التي انتشرت في أسواق مدينة تلمسان، عادة النجش أو التناجش، بأن يعطي الرجل قيمة للشيء، دون قصد شرائه، تغريرا بغيره وتعرف هذه الطريقة عند تجار مدينة تلمسان ''بالبزم'' (185).


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)