الجزائر

"خارجون عن القانون".. داخلون إلى الضوء هل تستطيع سينما بوشارب أن تغيّر التاريخ؟




هل ننتظر من المخرج الجزائري الأصل، رشيد بوشارب، أن يغيّر شيئا من التاريخ - أو بالأحرى يضيف شيئا للتاريخ - بفيلم حول أحداث إجرامية غير معترف بها من الجانب الفرنسي، جرت في مستعمرة فرنسية قديمة قبل أكثر من ستين سنة؟! في الوقت الذي لم تستطع فيه الدبلوماسيات والسياسات الداخلية ولا الخارجية، إقناع الرأي العام الشمولي الفرنسي بتلك الحقائق التاريخية.. أم أن قضية الفيلم ككل لا تتعدى كونها إنتاجا سينمائيا سيدخل منافسة فنية على أمل التتويج؟؟  بعض المتابعين لقضية فيلم بوشارب الجديد "خارجون عن القانون"، يعتقدون أن الجدل الذي طعمّه اليمين الفرنسي مؤخرا حول الفيلم، جدل عقيم قد ينتهي مباشرة بعد عرض الفيلم في الأسبوع الجاري في إطار المسابقة الرسمية لمهرجان كان في طبعته الـ 63. والبعض الآخر يروّج إلى كون هذا الجدل ما هو إلا "بروباغندا" إعلامية لفيلم يدخل مسابقة عالمية، ويحتاج إلى بعض الدعاية. وفي هذا الصدد يمكننا القول إن فيلم بوشارب حظي بالفعل بدعاية إعلامية ضخمة ومجّانية. لكن؛ المتتبع لمسار المخرج الفرنسي ذي الأصول الجزائرية، يلمس بوضوح تلك العلاقة الكبيرة بين سينما بوشارب والسياسة العالمية بشكل عام، والإقليمية بشكل خاص، لاسيما علاقة الضفة الشمالية للمتوسط بالضفة الجنوبية. والمتتبع لشؤون الحدث السينمائي الاستثنائي في "كان" الفرنسية، يذكر أنه قبل سنوات قليلة حدث بالفعل أن بوشارب استطاع بفيلم عن سكان شمال إفريقيا الأصليين indigenes أن يغيّر التاريخ الفرنسي.. نعم، وهذا هو السبب الرئيسي ربما، في الحملة الفرنسية اليمينية الجديدة على فيلم جديد لبوشارب.. حدث ذلك قبل سنوات قليلة، حيث أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك شاهد فيلم بوشارب السابق "السكان الأصليون" (الذي فاز نجومه مجتمعين بجائزة التمثيل في "كان" قبل سنوات قليلة)، وفهم درساً تاريخياً مهماً يتعلق بالظلم اللاحق في فرنسا بالمغاربة الذين كانوا قد ساهموا في تحريرها خلال الحرب العالمية الثانية، فأصدر قرارات سياسية إصلاحية؛ غيّرت مصيرهم ومصير ورثتهم.. أي أن فيلم بوشارب، تمكن فعلا من تغيير التاريخ. اليوم؛ في ظل الحكم الساركوزي المتطرّف في حق المهاجرين المغاربة خصوصا، يعيد بوشارب كرّة تغيير التاريخ مرّة أخرى بجزء ثان من ملحمته السينمائية التي ساهم فيها الإنتاج الفرنسي بحوالي 59 بالمئة من الميزانية الإجمالية للفيلم؛ فيما تكفلت الجهة الجزائرية الرسمية بـ 21 بالمئة من تكلفة الإنتاج. كما تكفل طرف تونسي بـ 10 بالمئة وطرف بلجيكي بـ10 بالمئة المتبقية.. معادلة غير متكافئة ربما، لكنها رجحت لصالح الطرف الجزائري الذي صبغ ألوانه على غلاف الفيلم الداخل إلى "كان" هذه الأيام.."خارجون عن القانون"، فيلم كان متوقعاً له أن يقدم في مهرجان كان، كفيلم فرنسي/ جزائري، لكن بوشارب ومن خلفه اكتفوا بهوية جزائرية خالصة للفيلم.. غير أن القضية لم تقتصر على الجانب التمويلي فحسب؛ بل أصبحت بما لا يدعو إلى الشك قضية سياسية/تاريخية، حرّكها اليمين الفرنسي المتطرف وعدد من السينمائيين والسياسيين المؤرخين الذين يدركون جيدا ما مدى تأثير السينما على مجرى التاريخ. وفي هذا الصدد اكتشف اليمين الفرنسي، وغيره من الأطياف الفرنسية من بينهم النائب ليونيل لوكا، من خلال حديث أدلى به مسؤول في وزارة الدفاع، يدعى هوبير فالكو، كان قد قرأ السيناريو منذ شهور، بأن الفيلم يتهم الجنود الفرنسيين باغتيال أول الثوار الجزائريين الذين تحركوا في سطيف، ڤالمة وخراطة، في الثامن ماي 1945. بوشارب ركّز في بداية فيلمه على هذا الواقع الذي يرفضه أبناء فرنسا الإستعمارية، لا سيما أصحاب اليمين، الذين طالبوا أولاً بسحب اسم فرنسا كمنتج للفيلم، ثم بوقف عرض الفيلم في "كان"، بل إن موقعاً لليمين المتطرف الفرنسي يهدد الآن بالنزول إلى الشارع في "كان"، قبل عرض الفيلم احتجاجاً ومحاولة لمنع عرضه بالقوة... هذه التطورات السياسية، إضافة إلى ما يمكن تسجيله من تبعات عرض الفيلم، ألا يمكنها حقا تغيير منحى سياسي -تاريخي ما؟؟ تستطيع السينما إذن أن تغيّر التاريخ المتكئ على سياسات حكومات الشعوب، سواء من حيث تيمة الأفلام "التغييرية" أو من حيث "السينمائيين المغيّرين". وقبل التفصيل في هذه الجدلية دعونا أولا نسلّط الضوء على خلفية التجربة البوشاربية وعلاقتها بالسياسة والأيديولوجيا.بوشارب.."روبن هود" السينما الجزائريّةمع أول أفلامه الطويلة، بدا جليا أن السينمائي الحالم ذا الأصول الجزائرية، يملك وعيا مختلفا ونظرة تفكيكية للأشياء، طابعها كان التجريب في الدرجة الأولى، حيث لم يقتنع بوشارب في بداياته بخطاب العودة إلى الأصول، من منطلق فيلمه الأول في1991، والذي حمل عنوانا بسيطا وملغما في نفس الوقت.فيلم "شاب" يتطرّق فيه بوشارب إلى قصة شاب يطرد من فرنسا نحو الجزائر، وطنه الأصلي، ليواجه واقعا لا ولن يتجاوب معه قبل أن يعود إلى منفاه الاختياري فرنسا؛ حيث يتأكد بأنه مرفوض بالسليقة الفرنسية. قد يجهل الكثيرون من المهتمين بجدل "خارجون عن القانون"، أنّ علاقة بوشارب بالجدل السياسي بدأت مع فيلم "شاب"، الذي أسس بالفعل لأفلام الفرنكو - جزائريين الذين يحددون الجزائر داخل كادر سينمائي مختلف الأيديولوجيات ومنفتح على عديد الأسئلة.في فيلمه "العصا الحمراء"، لم يبتعد بوشارب عن الهامش، من خلال حكاية ثلاثة أصدقاء من أبناء الضاحية الباريسية، يقررون الهجرة إلى أمريكا ليبحثوا عن حياة أفضل (لاحظوا "الهجرة المزدوجة"من الشمال الإفريقي إلى فرنسا ثم إلى الكولورادو الأمريكي) وبذلك حاول بوشارب أن يعطي لمفهوم الهجرة بعدا ثالثا، لم يعجب أصحاب الخطاب الشوفيني الفرنسي، مما حمل بوشارب إلى البحث عن بعد رابع وخامس وعاشر ربما، من خلال أفلام ذات قضايا أشمل عارية من التخصيص، باعتبار أن بوشارب واحد من أبناء المهاجرين أيضا. فيلم "غبار الحياة" الذي رشح للأوسكار في 1996 عرّج فيه بوشارب هذه المرّة، إلى قصة شاب كان ثمرة زواج جندي أمريكي بفتاة فيتنامية، ولكم أن تحددوا الأبعاد الأيديولوجية للمخرج الذي يتعدّى في فيلم جديد العلاقات الإيديولوجية للشعوب إلى علاقات شمولية ظهرت ملامحها في فيلم "نهر لندن" وقبله فيلم "سينغال الصغيرة" الذي يسافر فيه بطل الفيلم "سوتيغي كوياتي" إلى أمريكا ليس بحثا عن حياة أفضل؛ بل للبحث عن أحفاد السنغاليين الذين كان أجدادهم حطبا لبناء العظمة الأمريكية.. وهنا يمكننا أن نستشف أن علاقة بوشارب بسينما الهجرة وقضايا النضال ليست وليدة "أنديجان" أو"خارجون عن القانون"وبالعودة إلى فيلم "نهر لندن"، المنتج سنة 2005، يرفع بوشارب سقف الطرح الإيديولوجي والسياسي الممزوج بحرفة السينما إلى البعد الإنساني الملامس للبعد الديني المثير أكثر للجدل، من خلال حكاية عصمان المسلم الذي يلتقي بإليزابيث المسيحية في لندن في سياق البحث عن ابنيهما على خلفية تفجيرات لندن الشهيرة. فيلم هدوؤه مضطرب، يسرد علاقة فلسفية بين امرأة مسيحية أحكامها مسبقة وعنصرية تجاه المسلمين الذين تجهل قيمهم الأخلاقية والدينية، نظرا لسيطرة الأحكام المسبقة والدعاية المغرضة التي كان ضحيتها المجتمع الذي لا يمكن أن يتخطى هذه العقبة إلا بالحوار. هذا الحوار الذي اعتمده رشيد بين ليز وعصمان للبحث عن طريق نحو السلام، بثقافة سينمائية رصينة لم تترك فراغات لحمّالي حطب الجدل، الذين وجدوا في "خارجون عن القانون" منافذ تاريخية حساسة لإثارة اللغط أكثر، باعتبار أن العلاقة الفرنسية الجزائرية، كانت ولا تزال علاقة على صفيح ساخن.بوشارب إذن، ليس جديد الجدل، وهو المخرج الذي أثبت بالفعل أنه مخرج واع، بعرف ما يريده جيدا. والماسح لخريطة أعماله يلمس تلك العلاقة التسلسلية التي تدخل في سياق تجربة سينمائية محترمة ومؤسسة، قد تغيّر إن آجلا أم عاجلا شيئا من التاريخ..  رشدي رضوان


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)