كتاب البخلاء:
يذكر يحيى الدين اللاذقاني، بأن سرَ حبنا للجاحظ في هذا العصر بالذات ينبع من حديثه عن زمن يشبهنا، فكأنه- رحمه الله- كان ينظر ﺇلى أيامنا حين قال:" خفض عليك أيها السامع فأن الخطأ كثير غامر، ومشمول غالب، والصواب قليل خاص، ومقموع مستخف، وكنت أتعجب من كل فعل خرج من العادة، فلما خرجت الأفعال بأسرها من العادة صارت بأسرها عجباً، فبدخولها كلها في باب التعجب خرجت بأجمعها من باب العجب.
ومما كتبه الجاحظ في رسالة(الجد والهزل):" فالصواب اليوم غريب، وصاحبه مجهول، فالعجب ممن يصيب وهو مغمور، ويقول وهو مغمور"(43).
ﺇن أخطر أنواع الكتاب من كان يمرر رأيه دون صراخ، وكانت عند الجاحظ تلك الميزة، التي مارسها باقنعة مختلفة، فاستطاع أن يهجو الفرس في عز تسلط آل ساسان على مقدرات الدولة العربية اﻹسلامية.
وقد كان(كتاب البخلاء) أجود درره، وهو الكتاب الذي قدمه ﺇلى أهل القرن العشرين كأحسن ما يكون التقديم، حين نشره محققاً لأول مرة في ليدن العلامة(فان فلوتين) عام 1900، ثم تلقفه شيخ المستشرقين- آنذاك- نولدكه، فعرف به، ودعا ﺇلى ترجمته ﺇلى اللغات الأُوربية.
لا غرابة أن يتحول كتاب البخلاء ﺇلى واحد من أهم أربعة كتب في تأريخ الثقافة العربية بإجماع نقادها القدامى، ولا غرابة أيضاً أن تصبح مؤلفات الجاحظ جميعها عنواناً للمتعة والفائدة، فقد ذكرت متنزهات الدنيا وحدائقها أمام ابن دريد صاحب الجمهرة، فقال متسائلاً:" وأينَ انتم من منتزهات القلوب؟ قالوا: وماهي؟ قال: كتب الجاحظ، وعدَ معها نوادر أبي العيناء وأشعار المحدثين"
ﺇن نصوص كتاب البخلاء تنقسم ﺇلى فصيلتين اثنتين تبدو الحدود بينهما واضحة ﺇلا في بعض النصوص، وتشتمل الفصيلة الأولى على مجموعة من الرسائل والوصايا والردود الطويلة. وهي تشكل المادة النظرية التي أنتجها منظرو البخلاء. وتشتمل الفصيلة الثانية من النصوص على قصص قصيرة ونوادر مقتضبة تمثل لقطات من حياة البخيل اليومية، ويمكن اعتبارها تطبيقاً للناحية النظرية المتجمعة في الرسائل والوصايا(45).
يذكر الجاحظ رسالة سهل بن هارون ﺇلى بني عمه من آل راهيون حين ذموا مذهبه في البخل، وتتبعوا كلامه في الكتب، هذا جزء من الرسالة:" أصلح الله لكم أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير، وجعلكم من أهله. قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم لا تسرعوا ﺇلى الفتنة، فأن أسرع الناس ﺇلى القتال، أقلهم حياء من الفرار، وقد كانوا يقولون: ﺇذا أردت أن ترى العيوب جمة، فتأمل عيَاباً، فانه ﺇنما يعيب بفضل ما فيه من العيب. وأول العيب أن تعيب ما ليس بعيب.."(46).
وفي هذا السياق يذكر أحمد بن محمد بن امبيريك: قيمة كتاب البخلاء لاأدري أهي في الجمال اللفظي واستقامة المعنى، أم في خَصب المعاني، أم في هذا التصوير الدقيق، الذي لا يقاس إليه تصوير. تصوير حياة البصرة وبغداد في عصر الجاحظ. ويقول شارل بلا: ﺇن المرء ليبحث عن مثيل لكتاب البخلاء في الأدب العربي فلا يعثر عليه(47).
وكما نقل جورج لوكاش عن هاينة قوله: ﺇني لأعجب من مزاج الناس، ﺇنهم يطلبون تأريخهم من يد الفنان، ولا يطلبونه من يد المؤرخ. فهذه حقيقة أثبت صحتها، الجاحظ في كتبه الأدبية ذات المواصفات الفنية، وكذلك ابن دريد في أحاديثه، وبديع الزمان في مقاماته، كالمقامة المضيرية والمقامة البغدادية، والرصافية، والبصرية وغيرها من المقامات التي خلق شخصياتها من واقع الحياة وصورها تصويراً صادقاً ناطقاً بالحياة في السرد والحوار.
ولم يقتصر الجاحظ في تصوير الشخصية البخيلة سواء أكانت تعيش في مدن وولايات العراق أم في خراسان، بل ذهب أبعد من ذلك، وراح يصور الأكول في صور فنية حية، وناطقة. وﺇن موضوع الأكل والأكلة يكاد يكون قد غطى معظم صفحات كتاب البخلاء.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 11/06/2019
مضاف من طرف : diddooe
المصدر : رسالة تخرج