يحتفظ الفنان بوبكر لغرور، الذي يعرض أعماله منذ 10 سبتمبر الجاري إلى 9 أكتوبر المقبل بدار الثقافة "محمد العيد آل خليفة" بمدينة باتنة، بقصة شيقة مع النحت، بدأت بحلم جميل، إذ ولد بمسقط رأسه خنشلة في قلب الأوراس وتحقق في مدينة نيويورك الأمريكية.بوبكر لغرور، ذلك الطفل الذي عشق الرسم في صباه ولم يسعفه الحظ للالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة، لم يكن يدري بأن دخوله الجامعة وتفوقه في المسار الدراسي سيكون بداية لتحقيق حلمه في أن يصبح فنانا تشكيليا، لكن تخصص في النحت.
بصوت رزين وهادئ، قال ابن خنشلة الذي يعيش حاليا متنقلا بين الولايات المتحدة الأمريكية وبلجيكا في جلسة حميمية ل«وأج"؛ "حصولي بجامعة عنابة على منحة لمتابعة دراستي تخصص كيمياء بنيويورك، كانت نقطة تحول في حياتي نحو الأمنية التي كانت تراودني دوما وهي الفن"، وأضاف "في البداية بعد مغادرتي أرض الوطن باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1981، تابعت دروسا في الرسم بواشنطن، ثم سرعان ما تحولت إلى تعلم النحت في نيويورك انطلاقا من نموذج حي، تحت إشراف متخصص في الميدان بول لوك كايزي، وهو فنان نيويوركي من أصول إيطالية، ساهمت مرافقتي له فيما بعد في اكتشافي لأسرار هذا الفن المشوق".
أردف بوبكر الذي تربطه علاقة قرابة بالشهيد عباس لغرور "في الواقع تخصصي في الكيمياء سهّل اندماجي في عالم النحت، والتخصص في البرونز الذي يتطلب تركيزا وجهدا ووقتا طويلا، ودراية بتفاعل المواد"، لكن ما صقل تجربته وأعطاه دفعا قويا، اعتماده منذ البداية على النموذج الحي أو الموديل، لأن الموهبة وحدها لا تكفي -حسبه- لتكوين نحات في الطابع الكلاسيكي (نحت الأشخاص)، فهذا الفن لا يتعامل مع الأشكال المسطحة مثل فن التصوير، بل يعتمد -كما قال- على أشكال مجسمة ذات أبعاد ثلاثية، يكون فيها اللمس والحركة باليدين أساس تشكيل أي عمل فني وتنمية الإحساس بالأشياء لدى ممارسه.
قال بوبكر الذي يعرض لأول مرة بباتنة، ورابع مرة في الجزائر "منذ استقراري بالولايات المتحدة الأمريكية وأنا أعيش لفن النحت باحثا ومتعلما، ومنذ سنة 1992 تفرغت كليا لممارسة النحت بصفة يومية ودون انقطاع، وأجد متعة كبيرة في تشكيل أعمالي التي تستغرق كل وقتي".
إلى جانب مشاركته في العديد من المعارض، قدم دروسا في فن النحت بعدة معاهد متخصصة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها "ستيفنسن أكاديمي أوف فاين أرتس" بنيويورك. كما أشرف على عدة ورشات في الميدان في هذه المدينة وفي إيطاليا مع أستاذه بول لوك كايسي، وأخرى في بلجيكا، حيث يفضل العمل -كما شرح- لوجود مسبك يسهل عليه إنجاز أعماله التي تتم على مراحل، انطلاقا من النحت الأولي على الطين، ثم إعداد قالب الشمع، وبعدها صهر البرونز، ثم سكبه، وهي أهم مرحلة في أية منحوتة من هذه المادة وتتطلب ظروفا استثنائية.
أما بالجزائر -يضيف الفنان لغرور- فقد عرض فيها لأول مرة بدار الثقافة في خنشلة سنة 2010، وبعدها في تيزي وزو سنة 2011، وعام 2013 في الجزائر العاصمة، وهذه المرة يعرض أعماله بباتنة تحت شعار "أوراس الثورة" وفيها منحوتات أنجزها حديثا.
يكتشف زائر معرض هذا الفنان المغترب من مواليد سنة 1954، أعمالا بتفاصيل مذهلة ومنحوتات في غاية الدقة والمهارة، أبدعت فيها أنامل استطاعت أن تحول البرونز إلى تحف فنية تفيض بالمشاعر والأحاسيس، وتضفي على أخرى الروح الأمازيغية المتأصلة في صاحبها رغم الغربة والبعد عن أرض الأجداد.
يتضمن معرض لغرور 15 تمثالا نصفيا بعضها لأبطال الثورة التحريرية، مثل الشهداء مصطفى بن بولعيد والعربي بن مهيدي وعباس لغرور وعبان رمضان والمجاهد الراحل محمد بوضياف وجميلة بوحيرد، فيما بيّنت أخرى المرأة الترقية والأوراسية بتقاسيم وجهيهما وما يحملانه من أصالة من وشم ولباس وحلي تقليدي، إلى جانب لوحات زيتية.
الملاحظ في رأي عدد من الفنانين الذين زاروا المعرض، ومنهم الفنان التشكيلي المعروف حسين هوارة، أن بوبكر استطاع أن يتغلب على الطبيعة الصماء للبرونز وأضفى على تقاسيم وجوه منحوتاته النصفية، ومنها مولود معمري وكاتب ياسين، تعابير حسية تبين جوانب من شخصياتها الحقيقية.
تنتمي كل أعمال هذا الفنان إلى الطابع الكلاسيكي الذي يركز على التدقيق في تقاسيم الوجه والرأس وباقي أجزاء جسم الإنسان، وكذا التفاصيل متناهية الصغر إلى درجة تحديد التجاعيد الدقيقة التي تعلو الجبهة أو الجفون، وكذا الشعيرات المبعثرة على الذقن أو المتسللة من غطاء الرأس، فيما يغلب البرونز على المادة المستعملة وفق التقنية الإيطالية.
أكد هذا النحات أنه أراد أن يضفي خصوصية على معرضه بباتنة، مهد الثورة التحريرية، بتماثيل نصفية لبعض من صنعوا أمجاد ملحمة نوفمبر 1954، وستبقى تذكر الأجيال القادمة برجال قدموا حياتهم من أجل الحرية، لاسيما أن منحوتات البرونز ثمينة وتبقى لآلاف السنين.
لم يخف بوبكر لغرور استعداده الكبير لتنظيم ورشات تكوين في النحت، خاصة البرونز، بأية منطقة من الجزائر، كتلك التي قدمها بالمدرسة الجهوية للفنون الجميلة بكل من عزازقة والجزائر العاصمة، مضيفا بحماس: "أريد أن أنقل خبرتي التي اكتسبتها على مدار أكثر من 30 سنة في أمريكا وأوروبا للمهتمين من الفنانين بالجزائر"، وقد التقى بمواهب أكيدة "تستحق فقط من يأخذ بيدها".
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 28/09/2018
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : المساء
المصدر : www.el-massa.com