الجزائر

حلم النشر في الجمهورية بالفرنسية



عندما تسكن قرية صغيرة لا توجد إلا على خرائط الاستعمار لأنها قرية حدودية معتبرة منطقة عسكرية، يمزقها خط شال الذي يفصل المغرب عن الجزائر ، أو تقيم في مدينة لا صحيفة تصدر فيها، وعليك أن تنتظر الصباح كله لتصل جريدتا الجمهورية بالفرنسية والشعب بالعربية، إلى الكشك الذي ترتاده، تصبح تحت رحمة الحظ.حلم أي كاتب شاب هو أن يجد مساحة ينشر فيها. كل الجرائد الوطنية بالعربية وحتى بالفرنسية، يغلب إليها الطابع السياسي باستثناء الجمهورية التي كان قسمها الثقافي يخصص مساحات ولو محدودة للكتابات الأدبية. عندما نجحت في البكالوريا وانتقلت من تلمسان إلى جامعة وهران لتحضير شهادة الليسانس كان أول رهاناتي هو أن أنهي دراستي وأنجح. حياتي ومستقبل عائلتي كان معلقا على ذلك. كانت الحياة جد صعبة بالنسبة لقروي فقير لا يختلف كثيرا عن ابن الفقير لمولود فرعون، بل كثيرا ما رأيتني فيه بقوة. لهذا كان في البداية، الحصول على البروفي والالتحاق بالتدريس، أهم حلم. وعندما تحصلت على البروفي، كانت أمي أول من دفعني إلى الدراسة أكثر. قالت يجب أن لا تتوقف عند هذا الحد. كلما واصلت دراستك زادت أهميتك ويكون أبوك راضيا عليا. نحن مستورون. أمورنا تحسنت. نعيش بمنحة الشهيد. المهم لن نموت جوعا. أن يرضى علي والدي تلك سعادتي الكبرى. وواصلت دراستي وممارستي الإبداعية على الجريدة الحائطية التي كنا نعدها بمساعدة أستاذنا محمود الفلسطيني وكان يكلفني بزاوية الإبداع. وقبل الحصول على البكالوريا شاركت في امتحان أساتذة المتوسط ونجحت فيه، وكان ذلك ضمانا لي في حالة رسوبي في البكالوريا. نسيت التدريس ودخلت في حلم الليسانس بعد الحصول على البكالوريا. حلمي الثاني هو أن اغادر المجلة الحائطية وأسمح لنصوصي بأن ترى النور في جرائد ومجلات. لم يكن الأمر بسيطا. مع ذلك كانت واحدة من أماني أن أجرب نشر قصصي في الجمهورية بالفرنسية، أو المجاهد الأسبوعي بالعربية. كنت أقرأ كثيرا زاوية القراء في الجمهورية، ولكني لم أتجرأ في أي يوم من الأيام على نشر شيء بالفرنسية، في الجمهورية. كتبت قصصا قصيرة كثيرة. أتذكر منها: الفرحة. La joie، حكيت فيها قصة عودة والدي ذات سنة من فرنسا حيث كان عاملا مهاجرا فيها. ما بقي في ذهني هو السروال الدجين المليء بالأوراق الدعائية الملتصقة به، من الوراء، على مستوى الحزام. أرادت أختي زهور أن تنزعها. رفضت قطعيا، لأنها كانت جزءا من السروال وجمالياته، وأنها ستسقط من تلقاء نفسها يوم يصبح السروال باليا. لا أفهم لماذا كان إصراري على إبقائها، ربما لأني رأيت ابن عمي قام بنفس الشيء عند عودة والده من فرنسا، وجاء يتباهى أمامي. الكرتونات الصغيرة ذات الطابع الدعائي، دليل جدة السروال، وأنه لم يغسل ولا مرة واحدة. وخرجت بسروالي المطرز عند الحزام والمؤخرة بالوريقات والكتابات، بعضها من الجلد وعليها روديو وهو يحاول أن يروض حصانا جامحا. رأيت ابن عمي وأنا أتبختر كالطاووس أمامه. وهو يحمر ويصفر، ثم دخل عند أمه يبكي. كنت سعيدا أني أبكيته، فعدت إلى البيت وقلت لحنا وأختي زهور يمكنكما أن تنزعا الكراتين الدعائية. كانت القصة ساخرة جدا، وكل من قرأتها عليهم ضحكوا كثيرا. لا أدري اليوم لماذا لم أواصل في هذا الخط الكتابي الساخر، فقد كان يناسبني وينبع من أعماقي ومن عفويتي الطفولية. بعث القصة للجمهورية لكني انتظرت أسابيع طويلة بلا جدوى. وذات صباح شتوي ذهبت إلى الجريدة برفقة صديقي محمد براندو. ترددنا في الدخول. لكننا في النهاية دخلنا. قطعنا البهو الصغير المؤدي إلى البواب الذي كان يقف في نهاية المدخل. سألنا عن الغرض. ثم قال: الأكيد شكوى؟ قلت لا. نريد فقط أن نسلم مقالة للجمهورية. سألنا عن القسم. قال براندو: القسم الثقافي. طلب منا أن نكتب على الغلاف كلمتي: القسم الثقافي. ثم طمأننا بأنها ستصل إلى أصحابها بعد ربع ساعة. فرحتي كانت كبيرة ولا توصف. نشرت القصة وكنت سعيدا. أول مرة يحدث معي ذلك. لكن شيئا في داخلي لم يرحني، إذ بدا لي كأني كنت أخون جدتي لغويا. كانت قد توفيت قبل سنوات وكان علي أن أظل وفيا لها أنا من تعلم اللغة العربية من أجلها. كل ما فعلته من خيارات لغوية من الفترة الابتدائية حتى الثانوية كان من أجلها. لهذا ترددت كثيرا في نشر القصة الثانية التعذيب la torture من هذا المنطق الذي كلما تأملته اليوم، أشعر في أعماقي أنه لم يكن صائبا. لا أدري من أين دخلت في مخنا فكرة أن وجود الفرنسية فينا، يقتل اللغة العربية؟ ربما الحرب الأيديولوجية أو حتى حرب السيادة التي كان يجب أن تمس اللغة أيضا. سأعرف لاحقا أن هذه الخيارات كانت كارثية على البلاد وعلى الجمهورية نفسها لأنها أفقدتها في طاقم صحفي متمرس بسبب خيارات لغوية قاسية لم تكن موفقة دائما. بعثت قصة التعذيب بالفرنسية هذه المرة عن طريق البريد. كانت تتحدث عن حادثة اختطاف والدي وسجنه واستشهاده تحت التعذيب. كان علي عدم تجاوز عدد من الكلمات إن أنا أردت أن يكون لي حظ النشر. كنت أشعر بالبتر لكني تعلمت من تلك الممارسة أن أكون متقصدا في الكلام ومعبرا عما كنت أريده آخذا بعين الاعتبار المساحة المتوفرة. لم أستطع أن أتنصل من عقدة الذنب تجاه جدتي. على الرغم من أن ردود الفعل كانت إيجابية من أصدقائي ومحيطي العائلي والثقافي. شارت بانتشاء كبير. في النهاية، كنت أريد أن أنشر، أن أختبر قدراتي الإبداعية: هل أصلح لشيء اسمه القصة القصيرة؟ ثم رحت أجرب نشر القصة باللغة العربية. الغريب أن أول محاولة أصبت فيها إذ نشرت لي مجلة الثقافة العريقة التي كانت تصدرها وزارة الثقافة وكان الذين يكتبون فيها دكاترة وأسماء كبيرة. نشرت لي قصة: صفية والحلم المتمرد. قصة عن خيبة عاطفية قاسية جلبت لي من المشاكل العائلية أكثر مما أفادتني أدبيا إذ لم أنشر هذه القصة في أية مجموعة. كانت مجلات آمال وملحق الشعب الثقافي، والمجاهد الأسبوعي، مساحات مفتوحة للنشر والإبداع. لحتى حالات رفض النشر كانت تواجَه بحب، إذ يكفي أن يذكر أسمك واسم قصتك، في البريد العام لتكون سعيدا. الإحساس فقط بأنك موجود في هذا العالم المتماوج الذي اسمه الأدب، كان كافيا ليزرع الانتشاء والإصرار، ثم النشر تشجيعا للمواهبة مع تعليق خفيف والنشر بعدها. لعالم النشر في ذلك الوقت منطق صعب وغير مفهوم. شبكة العلاقات مهمة لكننا كنا في وهران وليس العاصمة. وتلك قضية أخرى؟.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)