الجزائر

حكمة عطائية



حكمة عطائية
خاطبوا الناس على قدر عقولهميقول ابن عطاء الله السكندري: ”من أذن في التعبير فهمت في مسامع الخلق عبارته، وجليت إليهم إشارته”مصدر الإذن في هذا، هو الله عز وجل، والمراد بالتعبير نقل ما قد يجول في الخاطر من أفكار، أو ما استقر في الذهن من الحقائق ومختلف المعلومات إلى الناس.وضوابط الكلام أن يأتي الكلام مطابقاً للحقيقة، وأن يكون المراد به بلوغ مرضاة الله، وأن يكون ميقات بيان تلك الحقيقة مناسباً، وأن يكون الناس الذين يوجه الخطاب إليهم مؤهلين لفهم المعاني والحقائق التي يُخاطَبُون بها.فمن أراد أن يموه بكلامه الحقيقة على النفس وينقلها إليهم مزيفة، فهو ليس مأذون له بالكلام.ومن أراد بعرضه الحقائق سليمة على أذهان الناس أن يصل من وراء ذلك إلى مبتغى دنيوي أو حظوة نفسية فهو أيضاً غير مأذون له بذلك، ومن أراد بذلك وجه الله دون ابتغاء أي غرض آخر، ولكنه اختار لبيان معارفه وحقائقه العلمية وقتاً غير مناسب، بحيث لا يؤدي كلامه الغاية المرجوة منه فهو غير مأذون له في ذلك نظراً أيضا، نظراً إلى أن الانضباط بمقتضيات الحكمة مطلوب دائما، وقد علمت أن الحكمة في القول والعمل، وإنما يصيب الحقَّ في القول من يختار للنطق به الوقت المناسب الذي يحقق لذلك القول ثمراته، ومجانفة الحكمة نقيض المطلوب، وهو غير مأذون فيه.ومن عبر عن الحقائق والمعارف تعبيراً سليماً، واختار لذك الظرف المناسب، وقصد به وجه الله، ولكنه خاطب بتلك الحقائق والمعارف أناساً لم تتهيأ عقولهم لتلك المعارف وهضمها، فهو أيضاً غير مأذون له في ذلك، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:”كلموا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يُكْفَرَ بالله ورسوله”.فأما من استجمع ضوابط الإذن هذه في حديثه الذي يخاطب به الناس، فإن الله يجعل له فهماً في أذهانهم، ويلهمهم ما خفي من الإشارات ودقائق المعاني التي فيه.ومقصود ابن عطاء الله من كلامه هذا، التحذير من أن يخاطب أحدنا الناس، بمعلومة أو حقيقة ما، دون الانضباط بهذه الآداب التي لابدّ منها ليكون الكلام مأذوناً به ومقبولاً عند الله.ومن النتائج الأولية لانضباط المتكلم بهذه الآداب، أن حديثه يلقى من الناس آذاناً صاغية وفهماً لمضمونه واستيعاباً لمرماه وإشاراته، وإنما يكون ذلك بفتح من الله، وسرّ يودعه في حديث المتكلم، ومرد هذا السرّور إلى انضباط المتكلم بالآداب التي حدثتك عنها، وهي الأمانة في التعبير عن الأحكام أو الحقائق، والإخلاص في ذلك لوجه الله، واختيار الوقت المناسب للنصيحة ولبيان الحق، واختيار المعارف والحقائق التي يتسنى للناس الذين يكلمهم إدراكها..ثم إني لأرى في هذه الحكمة إلماحاً، بقدر كبير من الأدب ولياقة التعبير ، على أن على المتصوفة الذين يتقلبون في أحوال البقاء والفناء والغيبة والحضور والقبضة والبسط، أن يمارسوا أحوالهم هذه تحت سلطان الانفعال القسري لا الأفعال المتكلفة، وألا يترجموا أحوالهم هذه إلى كلمات وعبارات يخاطبون بها الناس، فإن هذه الأحوال لا يترجمها ولا يعرّفها إلاّ معاناتها والوقوع الأسري تحت أسرها.فصاحب الحال هو الذي يدرك ما يعتريه ويتذوقه ويتفاعل معه، ومهما عبّر الآخرين عن مشاعره وما يعتريه من جزاء الحال التي يمر بها، لن يفهموا منها شيئاً ولن يجدوا في تعابيره وتصرفاته إلا ما يناقض الحال التي هم عليها ويخالف التعاليم والمفاهيم الدينية التي تلقوها..فيكون حديثه للناس عنها وتعبيراته عن مشاعره ومواجيده التي يتقلب فيها فتنة لهم في دينهم، أو سبباً لانفصام الثقة بينهم وبين أصحاب هذه الأحوال.وليس السبيل إلى الوقاية من هذه العاقبة، إلا رعاية هذه النصيحة الغالية التي يخاطبنا بها ابن عطاء الله عامة، ويخاطب بها السالكين الذين يتعرضون للأحوال التي حدثتك عنها خاصة.. وقديماً ألحَّ الخضر على سيدنا موسى عليهما الصلاة والسلام أن لا يسأله وأن لا يطمع في معارف خارجة عن طوقه العلمي ولم يكلفه الله بها، وهو نبي ورسول، فكيف لو كان المقبل إليها واحداً من عوام المسلمين الذين لن يكون إقبالهم إلى هذه الأمور الخارجة عن طوقهم إلا فتنة لهم؟والله أعلم بالصواب..المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بتصرف




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)