الجزائر

حرفيوها خسروا معركة المنافسة أمام الصينيين والسوريين و الأتراك


قسنطينة لم تعد مدينة النحاس
قسنطينة لم تعد مدينة النحاس وحرفيوها يتقلصون سنة بعد أخرى ، حيث تحصي غرفة الصناعة والحرف التقليدية بالولاية حاليا حوالي مائة ممارس لهذا النشاط ، بعد أن كان يصل عددهم في سنوات السبعينات والثمانينات الآلاف من "النحاحسية" الذين اضطروا إلى غلق محلاتهم أو تحويلها إلى بيع المأكولات السريعة التي تشهد انتشارا واسعا في السنوات الأخيرة .
وتنظيم 10 طبعات من المعارض الوطنية لهذا النشاط الحرفي الذي يتباهى به مسؤولو الصناعات التقليدية بالولاية لم ينجح للأسف الشديد في إعادة هذه الحرفة إلى ما كانت عليه في سنوات الإستقلال الأولى ، ونحاس قسنطينة يخسر معركة المنافسة مع القطع النحاسية القادمة من الخارج ، التي نجحت في تغيير الكثير من العادات المرتبطة باستعمال هذا المعدن .
والطبعة الأخيرة للصالون الوطني للنحاس التي يحتضنها قصر الثقافة مالك حداد منذ يوم الأحد الماضي وإلى غاية الخميس القادم أبعدت الإنتاج المحلي الذي كان يطبع يوميات القسنطنيين من أجنحة العرض والحرفيون يتفننون في تقديم قطع مبتكرة تتماشى وتطورات العصر.
تحف فنية ليست في متناول الجميع
واعترف إبن أحد أشهر الحرفيين في المدينة بأن سكان قسنطينة لم تعد تستهويهم النحاس ، بعد أن اعتذر لنا عن تقديم إجابات لأسئلتنا حول إنتاج والده الحرفي فيلالي الذي خصه المنظمون بحيز كبير من الصالون ، لأنه يجهل هذه الصنعة ، مكتفيا بتقديم مطوية تعرف بورشتهم الكائنة بحي بوالصوف " قصر الحرف والفنون" وبما أنجزته من إبداعات على مستوى العديد من المنشآت الثقافية والدينية بالوطن بما فيها مسجد باريس الذي يحمل بصمات هذا الحرفي الذي تعلم الصنعة من الشيخ محجوب أحد أقدم ممارسي هذا النشاط بحي السويقة الشعبي، مؤكدا بأن ورشتهم اليوم تتعامل مع طلبيات من الرئاسة والولاة لتقديمها كهدايا ، وهي تصنع تحفا فنية ليست في متناول الجميع.
فالحرفي في مدينة قسنطينة الذي غير من شكل منتوجه ليتناسب ومتطلبات العصر ، واستعان بالآلة لقطع صفائح النحاس من النوع الثقيل ، ونقش رسومات كانت مستعصية عليه ، تأخذنا عبر إبداعاته إلى قصور الأندلس الفخمة ، فشل للأسف الشديد في جعل سلعته تدخل كل البيوت ، وهو يشكو زحف سلعة الصين وسوريا وحتى الهند وسيريلانكا في أسواق مدينة تلقب بعاصمة النحاس.
الحرفيون الحاضرون في اليوم الدراسي الذي نظمته غرفة الحرف والصناعة التقليدية في نفس الفضاء للإستماع إلى انشغلاتهم ، في محاولة من مسؤولي الولاية إنعاش حرفة تحتضر، قالوا بأنه لا يمكنهم مواجهة المنافسة بسبب الندرة وغلاء المادة الأولية التي يباع الكيلو الواحد منها ب900 دينار ، بما يجعلهم غير قادرين على صنع إنتاج بسيط وبسعر أقل من السلعة الأجنبية ، خاصة الصينية التي لم تترك مجالا إلا واكتسحته بإنتاجها الوفير والبخس ، لأن ذلك يعني خسارتهم الأكيدة ، لذلك يضطرون إلى صنع منتوج من النوع الثقيل وبيعه بسعر باهظ ، لتحقيق هامش ربح يقتاتون منه ، بعد تراجع الطلب على النحاس الذي أدى بالعديد منهم إلى التخلي عن هذه الصنعة.
اختفاء قصعة النحاس من البيوت القسنطينية
فغابت الكثير من المنتوجات النحاسية التي كانت تطبع يوميات المرأة القسنطينية من الصالون الوطني العاشر للنحاس ، والحرفيون يقدمون نماذج جديدة مبتكرة تستخدم جميعها للديكور ، من ثريات ومرايا و مزهريات وموائد غرف الإستقبال وأرائك وغيرها من القطع الباهظة الثمن .
جناح الحرفي أمين خوجة الذي كان يشرف عليه صديقه قارة علي عبد الوهاب لتواجده بالعاصمة للمشاركة في المسابقة الوطنية للحرف التقليدية ، ورث الصنعة من أجداه الذين مارسوا هذا النشاط منذ سنة 1827 حسب بحث قام به بنفسه لمعرفة أصول حرفته . ومحله الموجود بحي سيدي بوعنابة يفتحه كل يوم جمعة لتعلقه بالمكان وبمهنة لم تعد تكفيه في مواجهة تكاليف المعيشة الغالية ، وهو آخر من بقي من أفراد العائلة يمارس هذه الحرفة . وما يعرضه في دكانه الصغير الذي حوله إلى متحف يضم بعض القطع التي تعود لأجداده وما صنعته أنامله من تحف فنية تجذب اهتمام السياح الذين يزورون المدينة القديمة ، لأنه يصنع نماذج صغيرة تصلح للديكور وللإستعمال اليومي في المطبخ ، من علب لحفظ البهارات وأخرى لتقديم الحلويات والأواني التقليدية من طنجرة وكانون وغيرها من القطع الخاصة بتزيين المنازل والمكاتب. وبسبب ندرة المادة الأولية يعتمد على شراء قصعة النحاس القديمة المصنوعة من النحاس الأحمر التي تخلصت منها العديد من البيوت أمام ظهور الغسالات الكهربائية ، والإعتماد على محلات غسل الملابس في تنظيف البطانيات وغيرها من الخدمات التي لم تعد تنجز داخل المنزل.
شباب يهربون من تعلم الصنعة
والصنايعية من العمال هربوا من احتراف هذه المهنة التي يشقون في إنجازها ولا يتلقون عنها إلا الفتات ، بمبلغ 8000 دينار شهريا لا يكفيهم لسد أبسط الحاجات ، والشباب الراغب في تعلم هذه الحرفة سرعان ما ينفر منها بسبب رفض أصحاب الصنعة تلقينهم فنيات النقش على النحاس حتى تبقى حكرا على عائلتهم ، حيث يتم استغلالهم في أشغال لا علاقة لها بتعلم المهنة ، حتى المنطويين تحت جناح التكوين المهني .
وفي مواجهة هذا الكساد الذي يضرب أشهر حرفة في قسنطينة التي تم اختيارها كمدينة نموذجية في صناعة النحاس ، طلب ممثل الوزارة نادي ساعد، وهو خبير دولي في الصناعات التقليدية ، يدرس بجامعة مدريد ، وله 21 سنة خبرة في هذا المجال من "نحاحسية المدينة" أن يتكتلوا في جمعيات ويعملوا على تقديم منتوج يكون في متناول الجميع . فالجودة ليست في منتوج جميل يحتفظ به الحرفي في دكانه أو بيته وإنما في تسويقه ، و التخلي عن أنانية البعض الذين يرفضون التعامل مع مستثمرين ومختصين لتطوير هذه الحرفة تحت مبرر " ما يربحش على ظهري" ، والتفكير في منتوج يجذب السائح وإذا لم يحضر يذهب عنده وهو يصدر له طلبياته، مقدما أمثلة كثيرة لبلدان تعتمد على الحرف التقليدية كمصدر أساسي للثروة وبإمكانيات بسيطة .
وقد سارع العديد من الحرفيين إلى حضور أشغال اليوم الدراسي على أمل الحصول على مساعدة الدولة لهم ، خاصة وأن من بين المشاركين مسؤولي وكالات قروض الدعم المصغرة ، والولاية تشرف على إعداد قائمة بأسماء المستفيدين من محلات جديدة موجهة لممارسي الصناعات التقليدية ، حيث قدمت لهم توضيحات حول شروط الإستفادة التي نتمنى ألا تسقط في نفس الأخطاء التي أدت إلى حرمان أصحاب الصنعة من محلات "حي الحرفيين " بمنطقة بوالصوف ، وخنقت كل مبادرة للدولة تسعى لإنعاش مدينة النحاس التي تتنفس اليوم بلاستيك ونحاس " الشناوة".
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)