الجزائر

"حج مصغر" في بلاد قبيلة "فليتة"




لا تتخلف الزوايا المنتشرة في غرب البلاد من تلمسان إلى عين الدفلى، نزولا إلى تيارت وما تحتها إلى غاية النعامة والبيض، عن الوعدة الكبرى التي تقام في نهاية شهر سبتمبر من كل سنة في سيدي أمحمد بن عودة بولاية غليزان. ويتنقل آلاف الناس إلى سيدي أمحمد أيضا من ولايات بعيدة، ولا يتخلف عنها كثير من المهاجرين في الخارج، والذين يجتهدون لتصادف عطلهم السنوية هذا الموعد الذي لا يغيبون عنه مهما كان.يستعد سكان هذه البلدة، التي تبعد عن عاصمة الولاية غليزان بحوالي 15 كيلومترا، ليستقبلوا الوافدين الذين يستأجر بعضهم منازل فيها ويحولوها إلى ديار للإطعام، في حين يمارس الزوار طقوسا يستغربها الذين لا يعرفون المنطقة، خاصة أن بعضها “تمثيل مصغر” لشعائر الحج، من طواف حول الضريح وصعود جبل “غار الباز” وزيارة “مغارة العبادة” والوضوء في العين المالحة.هذه الوعدة التي تقيمها فروع قبيلة “فليتة” التي تتفرع من غليزان إلى عدد من الولايات المحيطة بها، انطلاقا من يوم الأربعاء الأخير من شهر سبتمبر، ويفترق المشاركون في “الطعم” يوم الجمعة، بعد أن يكونوا قد مارسوا ما يعتقدون أنها طقوس يرضى عنهم بها الولي الصالح سيدي أمحمد بن عودة، ويسهل لهم أيامهم ويدفع عنهم الشرور والعين والحسد وكل ما يخافونه في الدنيا، ويمكّن أبناءهم من النجاح في الامتحانات، ويسهّل كسب الثروة للتجار، ويمنح للعازبات أزواجا وغيرها.إلا أن تزامن الموعد هذه السنة مع عيد الأضحى، رغم الطقس اللطيف الذي ساد في المنطقة، حمل كثيرا من فرق الخيالة إلى مغادرة مدينة سيدي أمحمد يوم الأربعاء، كما تفرقت الجموع يوم الخميس، دون أن يعرفوا إلى أي فرع من فروع قبيلة “فليتة” مالت الخيمة.طقوس نصب الخيمةتبدأ وعدة سيدي أمحمد بن عودة مباشرة بعد نهايتها، حيث تتفق القبائل والزوايا المتفرعة عن الزاوية الأم على الشروع في تحضير خيمة الموسم القادم. ويتم الشروع في الاتصالات لتوفير الوبر وقطع القماش المصنوعة من شعر الإبل، كما تنطلق أشغال حياكة تلك القطع في مختلف المناطق، ثم يجلبها المشاركون في خياطة الخيمة في الأيام التي تسبق الوعدة، حيث يجتمع الناس رجالا ونساء ويقومون بخياطة الخيمة العملاقة يوم الثلاثاء، وفي صباح الأربعاء، عند الانطلاق الرسمي للوعدة، تخرج الخيمة، ويتدافع المشاركون على حملها، ويبلغ التدافع والمنافسة حد استعمال العصي، حيث تحمل الخمية على الأكتاف من المنازل العتيقة للقرية، ويصعد بها حاملوها إلى الضريح الذي يدخلونه من الباب الكبير، ثم يطوفون بالخيمة حول قبر سيدي أمحمد بن عودة، ويخرجون من الباب الخلفي وينزلون إلى الفضاء المخصص لها، في جو من التدافع وسط زغاريد النسوة، وقد يحدث أن يصاب الناس بجروح وتسيل الدماء، إلا أن ذلك لا يثير أي ردود فعل مستنكرة من الجرحى أو المصابين. وتكون بلدة سيدي أمحمد في ذلك اليوم قد استقبلت أكثر من 50 ألف مشارك في الوعدة، حيث تتجند السلطات المحلية، مدنية وأمنية، للمشاركة في تنظيم التوافد. وتقام حواجز للشرطة والدرك مباشرة عند مخرج مدينة غليزان في اتجاه سيدي أمحمد. وينتشر أعوان الدرك الوطني في كل أرجاء البلدة لتأمين طقوس نصب الخيمة، التي يحضرها في العادة والي ولاية غليزان ونوابها في البرلمان، وكل رؤساء بلدياتها ومسؤوليها الإداريين، وأعوانها ووجهاؤها إلى جانب عامة الناس.وتعوّد الناس على مشاهدة الحضور الفعال للرئيس السابق للمندوبية التنفيذية البلدية لغليزان، الحاج محمد فرقان، الذي يشهد له الجميع أنه كان له الفضل في إقامة الوعدة يوم كانت الناس تختبئ في المنازل. ومباشرة بعد الانتهاء من نصب الخيمة، تحضّر “مثارد” الكسكسي باللحم وأباريق المرق وصحون العنب التي يتم تناولها تحت الخيمة. وقد صار القائمون على الوعدة ينصبون خيمتين للتمكن من احتواء كل الوافدين يوم الأربعاء.وتبقى الخيمة منصوبة يزورها الذين تخلفوا عن طقوس النصب، ولا يتم تفكيكها إلا في اليوم الأخير للوعدة. ويترقب الناس إلى أية جهة تميل، حيث يعتقدون أن العرش الذي تميل إليه الخيمة مبشر بموسم فلاحي جيد، وهو اعتقاد راسخ. كما يقوم كل زوار الخيمة بنتف خيوطها ويحملونها معهم للبركة.وتعيش مدينة سيدي أمحمد بن عودة، التابعة لدائرة المطمر، خريف كل سنة هذا الموعد الكبير، والذي لم ينقطع حتى في عزّ الأزمة الأمنية التي عاشتها الجزائر. وما تعرّض له مقام الولي الصالح، الذي تحمل المدينة اسمه، من هدم متكرر من قِبل الجماعات الإرهابية، التي صنعت الاستثناء في هذه الولاية من حيث حجم وبشاعة الجرائم التي ارتكبتها، وما صاحب ذلك من تجاوزات، انتشرت أخبارها في كل العالم. وفي كل مرة كان المنتسبون لهذا الولي، ومنهم الرئيس السابق لمدينة غليزان وقائد قوات الدفاع الذاتي فيها الحاج فرقان، يعيدون بناءها ويقيمون الوعدة تحت حراسة قوات الجيش حينها.أصل وعدة سيدي أمحمد بن عودةتقول الروايات إن وعدة سيدي أمحمد بن عودة عمرها خمسة قرون، حيث بدأت تقام مباشرة بعد رحيل الولي الذي تحمل اسمه في نهاية القرن السادس عشر للميلاد، بعد مرض عضال ألمّ به. ولم تتوقف الوعدة في عهد الأتراك، وبعدهم خلال فترة الاستعمار الفرنسي، واستمرت بعد استقلال الجزائر، إلى غاية بداية الأزمة الأمنية، حيث صارت إقامتها صعبة، نظرا للتحول الذي طرأ في المنطقة، التي كادت أن تصير تحت سيطرة الجماعات الإرهابية. وكانت كل بلديات ولاية غليزان حينها تسير من مقر الولاية، ومنها البلدية التي تحتضن الضريح، ومع ذلك كانت الوعدة تقام تحت حراسة أمنية مشددة، كتعبير عن استمرار أحد رموز المنطقة، وعدم الرضوخ للجماعات الإرهابية.ورغم كل الزخم الذي تشكّله هذه الوعدة فإن الكتابات والبحوث الجادة حولها غير موجودة، كما أنها لم تثر اهتمام المؤرخين ولا الباحثين في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا، مع كل ما يمكن أن تقدمه الدراسات حول هذه الوعدة من إجابات في علم الاجتماع والنفس وحتى السياسة.الوعدة التي قاومت الإرهابومع عودة الأمن إلى المنطقة عاد “إشعاع” البلدة من جديد في المناطق التي يؤمن سكانها بقدرات الولي المدفون فيها، والذي يشتهر أيضا بلقب “مروّض الأسود”، والذي كان أيضا فقيها ومتصوفا وفارسا ومجاهدا حارب الإسبان في تنس في الشلف ومزغران بمستغانم والمرسى الكبير بوهران، قبل أن يتوفى عازبا ويدفن في مسقط رأسه. وقد عاش في القرن السادس عشر للميلاد، وكان والده سيدي أمحمد بن يحيى عالما مشهودا في المنطقة. أما عن تسميته “بن عودة” فإنه تكريم لمربيته عودة بنت سيدي أمحمد علي المجاجي، التي ربّته ورعته حين أرسله والده إلى زاوية المجاجي في الظهرة لمواصلة تعليمه. ولكن الذين يزورون سيدي أمحمد بن عودة اليوم لا يعرف أغلبيتهم تاريخ هذا الرجل المجاهد المتصوف، إلا أنهم يتناقلون عنه ما يمكن وصفه بالخرافات التي يعتقدون فيها، مثل استجابته للمستنجدين به للزواج والرزق وغيرها من المعتقدات.وعليه يمارسون طقوسهم طول العام حين يقصدون الضريح، الذي يتحوّل بمناسبة “الطعم” السنوي إلى مهرجان كبير يحوي كل شيء من تلاوة القرآن والتبرك والمصالحة إلى الاحتفالات الغنائية التقليدية وعروض الفروسية إلى الشعوذة ونسج العلاقات التجارية والسياسية وغيرها.لكن الوعدة التي أقيمت الأسبوع الماضي لم يحضرها الشاب عبدو ولا حليمة الزهوانية، اللذين تعوّد عليهما المترددون على “الطعم”، رغم أنهما لا علاقة لهما بقبيلة “فليتة”، فالأول ندرومي والثانية مغربية الأصل، حيث يستأجران، هما وغيرهم بيوتا لا يخرجون منها طول مدة الوعدة يقيمون داخلها الأفراح. كما لا يتخلّف عنها “سياسيو” غليزان من رؤساء بلديات وإطارات ترقوا يمارسون وظائفهم خارج مسقط رأسهم، وكذلك الإطارات الذين مروا على غليزان في مسارهم المهني وغادروها إلى مناصب أرقى، يعتقدون أن لسيدي أمحمد بن عودة فضل في ذلك عليهم. ورغم انشغالاته الوطنية، فإن وزير الأشغال العمومية عبد القادر قاضي وجد متسعا من الوقت، وتنقل إلى غليزان يوم الأربعاء بعد نصب الخيمة التي تعوّد المشاركة فيها عندما كان واليا لغليزان.التحضير للوعدة يبدأ في الربيعيبدأ التحضير الفعلي ل«طعم” سيدي أمحمد بن عودة في الربيع، حيث تقام وعدة مصغرة، يقصدها المريدون ذوو الحاجة، ويتعهدون بنذور لتمويل وتموين الوعدة التي تقام في سبتمبر، حيث يكلف الطعم أموالا باهظة لا أحد يمكنه أن يقدّم تقديرا تقريبيا لنفقاتها، إذ يأكل آلاف الزوار ويشربون مجانا، وتنحر عشرات الأبقار ومئات الأغنام لتوفير اللحم. في حين يفضل العديد من زوار الوعدة تأجير مساكن في البلدة يطعمون فيها الناس طول مدتها، ويسخّرون خدما يتكفلون بالطهي والغسيل وكل ما يتصل بالإطعام من توفير الأواني وغيرها. كما تلتزم في الربيع أيضا فرق الخيالة بالمشاركة، ويبدأ تحضير الخيول وشاحنات نقلهم وخيم الإقامة وألبسة الفرسان وغيرها لهذا الموعد. “حج مصغر” في بلاد الشارقةيندهش الذي يشارك لأول مرة في وعدة سيدي أمحمد بن عودة للأعداد الغفيرة جدا للمشاركين فيها، ولتنوع ترقيمات السيارات الراكنة في محيط الضريح، ويندهشون لتبريرات إقامة الوعدة، وأهمها حسب ما يتداوله أتباع عرش “فليتة” أن الوعد بمثابة “عرس زواج سيدي أمحمد بن عودة” الذي توفي عازبا. ويكتشف المتمعن في الطقوس التي يمارسها زوار الوعدة، مشابهتها لبعض مناسك الحج، مثل الطواف حول الضريح سبع مرات، والصعود إلى “غار الباز” وهو مرتفع تعلوه قبة مهداة لسيدي عبد القادر الجيلاني، كما يصعد الحجاج جبل عرفة. ويروي المريدون أن صحنا من الكسكسي سقط من أعلى الجبل ولم ينكسر ولم يتشتت محتواه. وتتضمن الطقوس أيضا زيارة “غار العبادة” وهو نفق يقع في سفح وادي مينا، يتوغلون داخله ويشعلون فيه الشموع. يقال إن سيدي أمحمد بن عودة كان يتعبد فيه. وأخيرا لا يغادر الزوار الوعدة دون المرور على “العين المالحة” ليتبركوا بمائها، كما يفعل الحجاج بمياه زمزم. ويتوجه الزوار إلى ركن في الغرفة التي تحتضن الضريح يسمونها “الأذن” يقبلونها ويتوجهون إلى الولي بدعواتهم، مثلما يتبرك الحجاج بالحجر الأسود.أما الفرسان الذين يشاركون في مهرجان “الفنتازيا”، فإنهم يقومون كلهم بعد الوصول بارتداء ألبستهم وتزيين خيولهم والتوجه إلى الضريح، قبل أن ينزلوا إلى الفضاء المخصص للألعاب. وترافق الوعدة مهرجانات غنائية تقليدية من خلال مشاركة عشرات فرق القصبة والقلال، التي يتحلق حولها الرجال والنساء الذين يرافقونها بالرقص. كما تقام مبارزات في لعبة العصي. وتجلب الوعدة عشرات التجار الجزائريين الذين يعرضون بنادق بلاستيكية ولعبا مصنعة في الصين، ويعرض الأفارقة الأعشاب وغيرها من منتوجاتهم التي نصادفها في الأسواق الشعبية. بالإضافة إلى ازدهار تجارة التمر والتين الجاف والخروب والرمان والحلوى التقليدية، وغيرها من المعروضات التي يشتريها الزوار للبركة. ويعترف كثير من المشاركين في الوعدة أن طقوسا كثيرة لا علاقة لها بالدين الإسلامي، لكنهم توارثوها جيلا عن جيل ويجتهدون لتخليدها.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)