الجزائر

حتى لا تسقط الدولة ويُستباح الوطن



حتى لا تسقط الدولة ويُستباح الوطن
قبل البحث في فرص بناء توافق وطني على عقد اجتماعي جديد، يُصلِح ما أصاب الدولة من ضعف وهشاشة، يحسن بنا أن نشجع السلطة والمعارضة على إعلان عاجل لهدنة، لا غالب فيها ولا مغلوب، تخرجهم من خنادق تخريب البلد عن بُعد إلى طاولة يصنع حولها توافقا مؤقتا حول وسائل منع الدولة من الانهيار، وتحصين الجبهة الداخلية من تهديدات حقيقية متوقعة ومرصودة في سنة قادمة حبلى بالمخاطر والتهديدات.السنة الجديدة التي تحلّ علينا بعد أسبوع من الآن، هي بجميع المقاييس أخطر سنة منذ بداية هذه الألفية، حبلى بكثير من المخاطر والتهديدات ليس على الشعوب والدول الهشّة فحسب، بل على مجمل التوازنات الدولية المختلّة، في عالم يودع مكرها منظومة القطب الواحد، وهو لم يستسلم بعد لإدارة متعددة الأقطاب، مع اقتصاد عالمي أسس بنيانه على شفا جرف هار، وحروب بالوكالة سوف توسّع رقعتها، وأزمات مالية ونقدية قد تحول دولا غنية إلى بلدان متسولة في بحر ساعة، ناهيك عن تعاظم وتنوع أشكال جديدة من الحروب الناعمة التي تستهدف تفتيت النسيج الاجتماعي، وضرب مكونات الهوية في الدين واللغة، تريد انتزاع إدارة الشعوب من أيدي نخبها الأهلية.لأجل ذلك ما كان لنا أن نرتعش هكذا ساعة تراجع أسعار النفط، بقدر ما يحسن بنا أن نفزع لحالة الانسداد السياسي المزمن، وتعاظم صور الشلل والتخشّب في سلوك الدولة، وخلود مؤسساتها ورجالاتها إلى الأرض، وقلة حيلة من بيده سلطة القرار، وغياب بدائل مطمْئِنة بيد المعارضة.بكل أمانة وتواضع ينبغي أن نعترف أن الدولة الجزائرية غير مؤهّلة اليوم لمواجهة التحدّيات القادمة، لا على المستوى الأمني حتى مع تثمين الجهد والعبء الملقى على مؤسسة الجيش والمؤسسات الأمنية ولا على مستوى الأمن الاقتصادي حتى مع وجود احتياطي مالي قد يتبخر بين عشية وضحاها ولا على مستوى الأمن الاجتماعي حتى مع افتراض توفر أدوات شراء السلم الاجتماعي بعملة القردة ولا على مستوى الأمن السياسي، حتى مع افتراض عجز المعارضة عن إرباك السلطة فوق ما تتحمل.أمنياً، لا يعقل أن نترك المؤسسة العسكرية والأمنية عارية الظهر، في مواجهة تهديدات حقيقية متفاقمة على طول حدودنا، لا نعلم كيف ستحرك جبهاتها، وتنشط فتأخذنا على حين غرة، وكل جيش في حالة حرب وجيشنا اليوم في حالة حرب يحتاج إلى ظهير قوي من جبهته الداخلية، التي تحتاج في الحد الأدنى إلى امتناع الفرقاء في السلطة كما في المعارضة عن استدعاء المؤسسة كقوة ترجيح ومغالبة، أو حتى كحَكم في الخصومات السياسية المزمنة.اقتصادياً، ليس من الحكمة اليوم الاكتفاء باستدعاء بعض المقاربات التقنوقراطية لمواجهة تراجع أسعار النفط، بالتسويق لسياسة تقشّفية مرتجلة، قد تعمل كحاطبٍ بليل، فتوفر صاعقا أو أكثر لتفجير الجبهة الاجتماعية، فيما نحن بحاجة إلى توظيف الأزمة الراهنة للدخول بجدّية في مقاربة جديدة لتنمية البلاد، لا تكون بالضرورة بالوصفات التقليدية التي فشلت زمن الاقتصاد الموجه كما بعد تبني اقتصاد السوق في تحرير اقتصادنا من التبعية المطلقة للجباية النفطية.على المستوى الاجتماعي سوف نحتاج إلى طمأنة الشرائح الأكثر هشاشة، ليس عبر مواصلة العمل بنظام الدعم الذي يذهب الجزء الأكبر منه إلى جيوب أرباب الاستيراد، ولا بمغالطة الأجراء والموظفين بزياداتٍ في الأجور يسحقها التضخّم في بحر شهور قليلة، بل بتفعيل إجراءين اثنين قد سبقتنا إليهما أممٌ كثيرة زمن الأزمات.الأول: بالاعتماد على العمل وخلق مناصب الشغل كأفضل وسيلة لتقسيم الثروة والأعباء، ليس بأدوات اقتصاد السوق الخاضعة لمقياس الربح والخسارة، بل عبر فتح ورشات تشغيل ضخمة ذات منفعة عامة في الإنشاءات القاعدية، واستصلاح الأراضي، والبناء، وإعادة تهيئة المدن، بالوسائل والتقنيات والخبرات المحلية الصرفة.الثاني: بفرض نظام جبائي استثنائي على الثروات الضخمة التي تشكّلت في العقدين الماضيين، وتوظيفها حصراً لصالح تضييق الهوّة بين الأثرياء والمعدمين.أخيراً، نحتاج على المستوى السياسي وهو الأهم والأكثر إلحاحاً إلى إعلان "هدنة" استثنائية تسمح للسلطة كما للمعارضة بالخروج الآمن من الخنادق والسراديب بلا رايات بيض، إلى طاولة الحوار للبحث في نوعين من التوافقات: توافق عاجل حول ما يمكن فعله الآن على المستوى الأمني، والاقتصادي، والاجتماعي، لمواجهة تهديدات حقيقية مرصودة ومتوقعة، وتمكين الدولة الجزائرية بما هي عليه من هشاشة، وأعطال، وقصور من الوفاء بأدنى واجباتها ومسؤولياتها الأمنية، من حفظ الاستقرار، وحماية السيادة الوطنية، لنرسل برسالة قويّة واضحة لطرفين.الأولى: لجيشنا الوطني الشعبي، وأجهزتنا الأمنية، نطمئنها حيال سلامة الجبهة الداخلية التي نحصّنها بتوافق اضطراري بين أبنائها، وبالتأجيل الطوعي لبعض المطالب الفئوية، يقابله ترشيدٌ ظاهر في صرف المال العامّ، وقدرٌ أكبر من الشفافية في إدارة الشأن العام، حتى يتفرّغ الجيش الوطني الشعبي لمهام حماية الحدود، والتصدي لأزماتٍ أمنية قادمة، لا نعلم يقيناً أين ستفجّر ألغامها في الغد القريب؟الثانية: رسالة في اتجاه كل من يضمر الشر لهذا البلد في الداخل والخارج، أو يتربص له فرصة الانقضاض والعبث بأمنه، حتى يكون الجميع على بيّنة من أن خلافاتنا وصراعاتنا الداخلية على السلطة والمال، هي شأنٌ داخلي لا يمكن أن نسمح لأحدٍ بركوبه.غير أن هذا التوافق العاجل الذي لا نملك بديلا عنه، ولا يكلّفنا أكثر من التزام علني للنخب وقادة المكوّنات الاجتماعية به كحد أدنى، غير مقيّد بشروط مسبقة ولا بحسابات مضمرة، يحتاج بل يلزمنا بالتفرغ لبناء توافق وطني دائم يأخذ فرصته من الوقت والبحث والتشاور، يبدأ بقبول الجميع بتشخيص عقلاني، موضوعي، وحيادي لمَواطن العلل، وبؤر التعطيل، ودروب الفشل التي انساقت إليها البلد في الربع قرن الأخير، والتي تمنع اليوم دولة بحجم الجزائر، وبمقدراتها المادية والبشرية، وقدرة شعبها على العطاء بغير حساب، من الوفاء بأبسط واجباتها تجاه مواطنيها، لترتعد فرائص نخبها عند أول وعكة صحّية تصيب رأس الدولة، ويصيب سلطتها الزكام كلما عطس مؤشرُ أسعار النفط.وفي كل الأحوال فهذه فرصة ربما الفرصة الأخيرة المتاحة لنا لتجديد توافق وطني، قد أضعنا فرصة بنائه مرّتين في التسعينيات، حين خُدعنا بدستور مغشوش ملغّم بالصواعق والمعطلات، ثم حين اعتبر بعضهم "توافق سانت إيجيديو" لا حدث، وكانت الثالثة حين أفرغ قانون الوئام من محتواه السياسي، والرابعة أهدرتها السلطة والرئيس على وجه التحديد غداة رئاسيات 2004، وأخيرا الفرصة المتاحة اليوم، وقد اقتنعت السلطة كما المعارضة، على الأقل على مستوى الخطاب، بحاجة البلاد إلى إصلاحات تراجع بنية الدولة بالكامل، بمقاربة حكيمة لتغيير متحكّم فيه، لا يحرق المراحل، ولا يطعن في المؤسسات القائمة، ولا يغبط حق بقية المكوّنات الاجتماعية في المشاركة في صناعة وبناء عقد وطني توافقي، يؤمّن لعقودٍ قادمة التنافس المشروع والآمن على السلطة.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)