الجزائر

حافلة خاصّة.


الحافلة الصّغيرة التابعة لمحافظة المهرجان الوطني للمسرح المحترف تنهب الطريق السريع متوجهة إلى تلمسان من الجزائر العاصمة، وبقايا الربيع التي عزّزها المطر الأخير تلفت انتباه رفاق الرحلة إلى أن هناك جمالا خاصّا في هذه البلاد، عليهم أن يكفوا عن الكلام حتى لا يفوتهم، هناك نوع من الجمال علينا أن نتعاطاه صامتين وإلا فاتتنا أسراره، »والصمت في حضرة الجمال جمالُ«، كنا ستة: كاتب هذه السّطور الشاعرة التونسية راضية الشهايبي الشاعر المصري المقيم في إسبانيا أحمد يماني القاصّ والإعلامي الفلسطيني الأردني المقيم في قطر محمد هديب الباحث المسرحي والإعلامي السوري أنور محمد وعمي علاوة السائق، ما أروع هذا الرجل، يوزع بسماته في كل لحظة، ولا يزيد عليها إلا إذا سئل، من أبغض البشر إلى نفسي السائق الثرثار، خاصة إذا كنت في مزاج خاص، هناك سائق ينسى أنه رغم كونه صاحب المركبة ضيف عند زبونه حتى يهبط، فيغمرك بحكاياه ومشاكله وتعليقاته واهتماماته في عز حاجتك إلى الصمت، وعمي علاوة ليس من هذا النوع، لذلك تمنيت أن يلفّ بنا الدنيا كلها.كان كل واحد منا يتحدث عن حلمه بأن يخرج وطنه من تخلفاته، ويعبّر عن تخوفه من إجهاض ما، قد يمسّ روح التغيير التي غمرته في المرحلة الأخيرة، فالتونسية تحلم بتونس ديمقراطية لكنها خائفة من الثورة المضادة التي قد تجعل التونسي يندم على إزاحة بن علي، والمصري كذلك، رغم كونه يقيم في إسبانيا منذ 8 سنوات، وقد قاسمهما السوريُّ الحلمَ نفسَه، لكن تخوفه كان مختلفا، لم يكن خائفا من المستقبل بل من الحاضر، بالنظر إلى تداعيات المشهد السوري، إلا الفلسطيني فقد كان صامتا يلتقط أحاديثنا وفي عينيه دمعتان مكبوتتان، قال لنا: أحلم بأن يكون لي وطن أصلا، له شرطة تضربني بالهراوات إذا خرجت محتجا، تصلني فيه فواتير مضخمة للماء والغاز والكهرباء، ويزوّر فيه المزورون صوتي في الانتخابات، وأهرب منه إلى بلاد أخرى إذا تسنى لي الهربُ، أصحو صباحا فأجد صورة رئيسه غير المنتخب مزروعة في جرائده كالفطر، وأفتح الراديو أو التلفاز علني أجد مطربا أحبه فيلاقيني صوته »صوت الريّس« هادرا بخطب أعرف مسبقا أن وعودَها هواءُ، أنا يا أصدقائي أضاف صديقي المبدع محمد هديب لم أعش حتى هذا الواقع الذي ثرتم عليه في أوطانكم، فقد غادرت فلسطين قبل أربع وأربعين سنة وعمري عامان، ليصبح وطني حلما توارثه عني أولادي.
لم أعد أذكر عدد زياراتي إلى ضريح سيدي أبي مدين شعيب لكثرتها، وكان فضولي يلتقط طبيعة الأدعية التي يبثها زواره، فكانت في معظمها تتعلق بالإنسان، لكنني هذه المرة سمعت أدعية تتعلق بالأوطان، كان رفاقي في الرحلة يدعون بمستقبل أفضل لأوطانهم بحرارة لا تختلف عن حرارة ميدان التحرير، متى يدرك الحاكم العربي أنه بات عبئا على شعبه، وحتى وإن كان هو مليحا فإن نظامه أفسد على الناس معايشهم؟، وأن صبر الشعوب لا يستمر إلى آخر الدهور.
كان في قريتنا فتى هاجر إلى فرنسا قبل الثورة، ولم يعد إلى الجزائر إلا متقاعدا، فاشترى أرضا واسعة أقام عليها بيتا جميلا تزوج فيه امرأة ودودا وولودا، والقرية مجاورة لقرية سكانها يعتقدون أنهم من سلالة المصطفى على السلام، لذلك فنحن ملزمون تحت سلطة النسب الشريف بأن نعاملهم بحفاوة خاصة، حتى أن رجالهم يدخلون بيوتنا من غير استئذان، فحدث مرة أن دخل أحدهم على صاحبنا في بيته من غير أن يطلب منه الإذن، فلم يردّ عليه سلامَه، احتجّ "الشيخ الشريف" على برودة الاستقبال، فقال له صاحب البيت: اسمع يا سي فلان.. أنت تعوّدت على أن يُقال لك تفضل يا سيدي كُلْ يا سيدي اشربْ يا سيدي خذ هذه يا سيدي هل تحتاج شيئا يا سيدي؟، فآن لك أن تسمع مني: ارحلْ قبل أن أكسر رجليك يا سيدي، والحديث قياس على الحكام العرب مع شعوبهم.
كانت تلمسان تمارس شهوة التميز، وتمنح زوّارها للمرة الأولى حقن الدهشة، كانوا مذهولين حدّ العجز عن التعبير، وكنت أقول في نفسي: لماذا لا تحظى هذه المدينة على مدار السنوات بزيارات العرب والعجم »أعلم أن عين العرب تماهت مع عين العجم في ظل عين عولمة متعسفة وعوربة مزيفة« مثلما تحظى فاس والقيروان وحلب وإسطنبول مثلا؟، ثم كم مدينة جزائرية هي جديرة بهذه الحظوة لكنها محرومة منها؟، ما جدوى وجود مديرية للسياحة في كل ولاية من ولاياتنا الثماني والأربعين؟، زرت تونس فوجدت أن المقر الوطني لوزارة السياحة بسيط وصغير لكنه يطعم معظم البلد، حتى أنه يستقطب سنويا مليوني سائح جزائري، وأنا أودّع ضيوفي العرب بعد نهاية زيارتهم لم أدْر هل أفرح لأنهم أعجبوا ببلادي، أم أحزن لأن القائمين عليها سوّقوا مالَها ولم يسوّقوا جمالها.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)