هو المعذب، والباحث عن الهوية والمسافر في دروب الكلمة بحثا عن روحه التائهة في وطن أحبه جدا..
هو الذي ظل راكضا في شوارع المدن الجميلة عن وجه يألفه، أو عن أغنية يرددها لما حوله فتغني الطيور وتتراقص الجبال وتأخذ الريح أغنيته إلى كل الجهات..
هو الذي لم يعرف إلا العشق.. عشق الجزائر وعشق الشعر فكان بحق سيمفونية عزفتها الحياة في وطن لم يخلق إلا للشعر وللشعراء..
انه -جون سيناك-..الشاعر والروائي باللغة الفرنسية.. صاحب البرنامج الشعري الناجح في الستينيات والذي كان بعنوان-شعر على كل الجبهات- وصاحب المجموعة الشعرية-صباحية شعبي-.. صاحب الرواية - مشروع أب- والتي صدرت عام 1989 عن دار- Galimard- أي بعد وفاته بستة عشر عاما والتي تحمل الكثير من دلالات السيرة الذاتية.
ولد-جون سيناك-عام 1926 وكانت وفاته مُغتالا عام 1973.وما يزال موته يشكل سرا غامضا حول الجهة التي كانت سببا في اغتياله.. وما تزال أيضا حياته يلفها الكثير من الغموض.إن -جون سيناك-أو-يحي الوهراني- ظاهرة شعرية وقبلها إنسانية جاءت كما كان يقول هو صدفة إلى هذا الوجود.ومن خلال هذه الصدفة كانت حياته مزيجا من البحث والحيرة والبحث في وطن أحبه وقاطعه وعاد ليحبه من جديد..وهكذا كانت نصوصه الشعرية بوحا في حرقة الذات وركضا في كل الجهات بحثا عن وطن شكل حلما أراده الشاعر أن يتحقق وهو الذي أكد بكل صدق: "الكاتب الجزائري هو كل كاتب اتخذ نهائيا الجزائر وطنا"1.فكان بذلك شاعرا متميزا ، مصرا على كل قناعاته، عاشقا للحياة بكل ما فيها رغم كل الألم و الخيبات التي واجهته وهو يحاول رسم صورة للوطن كما يراه شاعرا فيقول:"ما أود قوله هو أنني مهيأ فطريا للشعور بالسعادة"2. انه الشعور الذي يخلقه الشاعر حتى في أوج غربته وبرده..
إن -جون سيناك-كما عرفه الأصدقاء وعلى رأسهم الباحثين: جمال بن الشيخ وحميد ناصر خوجة، هو الشاعر الكبير والإنسان المميز الذي يمد يده للجميع وخاصة الشعراء منهم..هو الذي لن ينسوا دفء حديثه وعمق تفكيره خاصة إذا تعلق الأمر بجزائر الغد التي ظل حالما بها وهو الذي اختار المنفى الإجباري بين 1959و1962 ليكتب أجمل النصوص و التي قدمته كأديب عالمي.
يقول عنه الشاعر-سعيد خطيبي-:"..كان يذكرني دائما بآرثر رامبو.عاش مثله حياة تيه، ألم، غربة ولا أمن..بلا أب ولا هوية..لم يكن يحتمي سوى بنبوغه في الشعر..لم أكن أرى في كتابات-يحي الوهراني- سوى ذات ترفض الخضوع والإذلال ..كان التمرد شعاره..تمرد على النص أولا ثم على الحياة.."3.هذا هو إذن-جون-أو -يحي- كما كان يسميه الأصدقاء ..هذا هو الشاعر الذي يقول:
-تتصدى الكلمات للعالم..
وبالكلمات وحدها تصدى للعالم الذي رفضه كثيرا وآلمه أكثر..بالكلمات وحدها رفع شعاره بأنه مُهيأ للسعادة وهو الذي ظلت كلماته تتصدى للعالم بكل ظلمه حتى بعد أن أقدمت أيد ما على اغتياله لكن صوت الكلمات لم يمت..
إن-سيناك- بتفرده في القصيدة قدم نموذجا جديدا في الشعر الجزائري له من الميزات الكثير، فقد جاء معبرا عن روح جديدة ورؤيا جديدة للكثير مما يتعلق بجزائر أخرى..برؤى ومفاهيم لم يكن من السهل التخلي عنها بل تأكيدها كثوابت وهنا يقول-خطيبي-:"لهذا لا يزال النقاد يرون بأن أهم مجددين في الشعر الجزائري باللغة الفرنسية هما بلا منازع:كاتب ياسين وجون سيناك"4. فهذه المصادفة التي جاءت بجون إلى هذا الوجود، هي نفسها التي تركت"في قلبه وروحه ونفسه وتفكيره جرحا صاهلا ظل صداه يئن ويصرخ في أكوان نصوصه. وكانت المصادفة في أن يصبح جون الفتى جون سيناك ويحي الوهراني"5.
كتب الكثيرون عن -جون سيناك- وترجمت الكثير من قصائده إلى العربية ويؤكد-محمد بوطغان- أنه أول من ترجم نصوص-جون-إلى العربية.ولعل من أهم الدراسات التي كانت في شعر-جون سيناك- كتابا بعنوان-جون سيناك، غريب بين ضفتين- من تأليف:جمال بن الشيخ وكريستيان شوليه عاشور،كما كان للباحث-حميد ناصر-خوجة أطروحة دكتوراه تناول فيها أعمال -جون- وكانت بعنوان:آلبير كامي وجون سيناك أو الابن المتمرد- Albert camus et John Sénac , ou le fils rebelle دون نسيان دراسة الباحث المتميز-رابح بلعمري- والتي جاءت تحت عنوان-جون سيناك بين الرغبة والألم-.
من أهم القصائد التي تركها جون سيناك -الجزائر مدينة مفتوحة-و-الأيدي والأرجل مربوطة-و-طوفان فتى-و-أومبلا- وغيرها وكلها من ترجمة الباحث-محمد بوطغان- ، الذي يقول عن قصائد-سيناك- بأنها تقول" على الدوام ألما مبهما وجرحا مفتوحا صارخا في بكائية متوهجة"6.انه صوت الشاعر المسكون بالرغبة والألم، الهائم في وجود مليء بالتساؤلات المتعبة والأمنيات المفتوحة على كل الاحتمالات..انه صوت الشاعر الذي يؤكد المترجم إعجابه بقصائده إذ يقول:"وجدت سيناك يصرخ بأعلى ما يمكن للقصيدة ويهمس كأرق ما يمكن للشعر أن يهمس برؤاه للكون والإنسان وبرؤاه لجزائر الغد البهي الجميل ضمن المشروع الثوري الذي آمن بمبادئه إيمان الأساطير ورأى من خلاله جزائر متعددة متصالحة"7.انه بحق شاعر حمل هموم وطن ظل حالما به ، مفتشا في أزقته عن روحه الهائمة ، المتشوقة دوما لغد أجمل.وأشير فقط بأن ترجمة النصوص قد أخلت قليلا بالمعنى الذي قصد إليه الشاعر لأن المترجم اعتمد أكثر نوعا من الترجمة الحرفية التي قد تفقد النص جماله ومعناه لكن ذلك لا ينقص طبعا من الجهد الذي بذله الأستاذ-محمد بوطغان-في ترجمة هذه النصوص وتقديمها للقارئ العربي عموما.
هكذا وبعد رحلة ألم وحب، بعد غوص في الطفولة كما يقول:"يقلقني كثيرا زمن الكتابة..يهمني زمن العيش..ربما ببساطة لأنني في مثل هذا النسيج اللؤلؤي أستعيد روحي الهجينة في أزقة طفولتي"8، غادر-جون سيناك-هذا العالم عنوة وسكت صوته لكن شعره ظل صداه على كل الجبهات..
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 03/01/2012
مضاف من طرف : sofiane
المصدر : www.afrikaonline.cz