بعد سَفَرٍ مُضْنٍ جاء إثر تعرضهم لمآسي وشقاء في أرضهم بالجزائر بسبب الاضطهاد الفرنسي الاستعماري، استقروا حوالي بداية سنوات 1860م، أو في 1859م تقول وثائق بريطانية، مُرْهِقَين بعد أن حطُّوا الرّحال فوق تلٍّ رملي على الشاطئ الجنوبي الغربي لِبُحيْرة الحولة في صفد في فلسطين في ما سيُعرَف بقرية تُليل.
هناك، شَرَعُوا في إعادة بناء حياتهم في هذه الأرض البعيدة عن وطنهم ومحاولةِ تَجاوُز ذكريات القهر الاستعماري الفرنسي تدريجيًا دون نِسْيان الماضي الأليم...مُلْتَفِتِين من حين لآخر نحو الغرب لِمعرفة أخبارِ الأهل والأقارب والوطن المُستبَاح مِن الوافدين الجُدُد الذين لَفَظَهُم النظام القمعي الاستعماري والعابِرِين إلى البقاع المقدَّسة ولطلب العِلْم.
بقرية تُليل، عاشوا حسب أنماط الحياة التي وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم في الجزائر مُعتمِدين على زراعة الحبوب والخضروات بشكل أساسي وعلى تربية الماشية مع قليل من الصيد البحري وحافظوا على العادات والتقاليد واللسان. وامتهن عدد منهم التجارة والتبادل مع مدينة القنيطرة في هضبة الجولان السورية، التي عاشتْ فيها جالية جزائرية مُعتبَرة العدد، وامتلكوا المتاجر والحوانيت في هذه المدينة وفي صَفَد في فلسطين. وكبرتْ القرية، أثناء ذلك، وتَوَسَّعَتْ مثلما تَوَسَّعَتْ القرية المجاورة لها المعروفة بـ: "الحُسينية" حتى اختلطتا وأصبحتا بلدة واحدة. ولم تُنْسِهم مشاغل الحياة اليومية والمتطلبات العائلية الحفاظ على التواصل مع بقية الجزائريين في الشام، لا سيما مع الأمير عبد القادر الجزائري وأبنائه والتنسيق معهم في عدد من القضايا، حيث كان موسى الحاج حسين الكْبِيرْ، أحد أعيانهم وأغنيائهم ومثقفيهم، الوسيط بينهم وبين صديقه الأمير الجزائري الذي كانوا يُكِنُّون له احترامًا كبيرا ويُعوِّلون عليه كُلَّما تعرَّضوا إلى تحديات ومشاكل تفوق مواجهتُها قدراتِ القرية ورجالَها. وهي القرية التي بلغ عدد سكانها، آنذاك، المئات، بل فاقوا الـ: 500 حسب وثائق بريطانية، وكانوا يُقيمون في عشرات المنازل ويُعَلِّمُون أبناءَهم وبناتهم في مدرسةٍ بناها بمعيةِ المسجد الجزائري محمد بن عبد الله الخالدي قبيل وفاة الأمير عبد القادر.
وحينما بدأت الحياة تبتسم لهم قليلا، وما كانت سهلة، بدأ "صندوق اكتشاف فلسطين" الصهيوني يُعكَّر صفو حياتهم حيث أَسَّسَ مستوطَنةً فلاحية يهودية على أرض هذه القرية سًمِّيتْ بـ: "مُوشَاف". وفهموا اللعبة مُبَكّرًا على ما يبدو، بفضل تجربتهم السابقة الأليمة مع المحتلين الفرنسيين دون شك حيث لا يُلدَغ المرْءُ من الجُحْر مَرَّتَيْن، فَهَبُّوا بكل ما أُوتُوا من إمكانيات، بما فيها السلاح الناري، وأفشلوا المشروع الصهيوني الاستيطاني في تلك العقود الأخيرة من القرن 19م وفي عهد الأمير عبد القادر بعد اشتباكاتٍ مع اليهود وأعضاء وفد "صندوق اكتشاف فلسطين" الصهيوني. وانتهتْ الصّدامات بمقتل أحد الجزائريين، فيما لا نعرِف خسائر الطرف الآخر. ولم يكونوا يتوقعون حينها أنَّه إفشالٌ للمشروع الصهيوني...إلى حين...بعد نحو 60 عامًا.
أما المشروع الاستيطاني فقد تَمَّ تحويلُه من طرف "الصندوق" إلى منطقة يَافَا مع إبقاء الأعين مُرَكَّزَة على كل قرى وبلدات الجزائريين الفلسطينية، لا سيما في صفد والجليل والتي كانت من بين الجهات المُستهدَفة الأولى من طرف المحتلين الصهاينة وحلفائهم البريطانيين في ربيع العام 1948م...عام النكبة والاحتلال الذي يدوم إلى اليوم.
كان هذا الصِّدام "...أول صِدام في فلسطين بين العرب من جهة، والصهيونية من جهة أخرى..." وقد تمَّ "...بين المُهجَّرين الجزائريين وبين صندوق اكتشاف فلسطين" يقول سُهيل الخالدي السوري من أصل جزائري الذي عاد نهائيا إلى وطن أجداده نهاية الثمانينيات الماضية واستقر في ولاية البْوِيرَة، في شمال الجزائر، مسقط رأس أجداده.
تقول بعض التقديرات التي تعود إلى عام 1945م إن هؤلاء الجزائريين، وبعض العائلات الفلسطينية المحلية من عشيرة الهيب وبَدْو "أكراد الخيط" الذين كانوا يعيشون جميعهم في الخيام، أصبحوا 340 نسمة يَسْكُنُون 64 منزلاً. ويَذكُر الخالدي السوري/الجزائري أن المنحدرين مِنْهُم من المناطق الجزائرية الناطقة بالأمازيغية بقوا يتحدثون بها إلى غاية "نهاية القرن 19م" على الأقل.
المشاكل في "تُليل – الحُسَيْنية" تَعَدَّدَتْ وتَفاقَمَتْ ثم انفجرتْ شظايَا وغضبًا شعبيًا حارقًا مع بداية الانتداب البريطاني على فلسطين بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. فمدرسةُ بلدة "تُليل – الحُسيْنية" أُغلِقتْ من طرف البريطانيين، والاستغوال اليهودي الصيوني على أهل البلد الفلسطينيين بدأ يَتَّخذ أبعادًا مُخيفة.
الغضب تَحَوَّل إلى ثورة حيث "...كانت القريتان ("تليل - الحسينية") هما الشَّريان المُغَذِّي للثورات الفلسطينية أعوام 1936م و1939م و1947م/1948م بالأسلحة المُهَرَّبة من دمشق وبيروت..." يقول سهيل الخالدي.
في ربيع 1948م، تعرضت "تُليل – الحُسَيْنية" إلى هجوميْن شديديْ العنف من قِبل عصابات الهاغانا الصهيونية وقَتَلَتْ يوم 13 مايو من هذا العام في مجزرة وحشية أكثر من 30 طفلا وامرأة لإرهابِ مَن بقوا على قيد الحياة حتى يَفرُّوا لاجئين ويَترُكُوا لهم الأرض وما فيها، فتفرَّقوا بين سوريا ولبنان وتَشَتَّتَ جُلُّهم في المخيمات.
وعلى هذه الأرض التي لم يبق من ديارها الفلسطينية الجزائرية سوى بيت حَجري واحد مُقَنطَر ستُقام، على بُعد نحو 1000م منه، مستوطنة "حولاتا" الصهيونية التي توسَّعت منذ تأسيسها عام 1937م على حساب الحقوق الفلسطينية المهضومة بتواطئ عربي ودولي لم يَعدْ سِرًّا على أحد.
لكن مَن هم هؤلاء الجزائريون ومِن أين أتوا مِن الجزائر؟
ألقابُهم، أو بعضهم، يقول سهيل الخالدي، هي "الحاج الطاهر، حَقُّونْ، الكْبِيرْ، عمَّار والزَّايَر، وتعود أصولهم إلى منطقة البُليْدة في الجزائر".
كان أحد أفراد عائلة الكْبِيرْ البُليدِية، وهو الحاج حسين الكْبِيرْ، في الجزائر قبل الرحيل/اللجوء إلى فلسطين "...أحد المفتين العامِلين في جيش الأمير عبد القادر الجزائري..."، حسب الدكتور عبد الله مغربي. ومن المعروف في سهل المتيجة وفي البليْدة، بشكل خاص، أن آل الكْبِيرْ يَنحدِرون من الولي الصَّالح والمهندس الزراعي والخبير في الرّي الأندلسي سيدي الكبير الذي وَفد على البُلَيْدَة في بداية القرن 16م، وكان أحد أصدقاء خير الدين بربروس العثماني الذي زاره عام 1535م، وما زال ضريحهُ بها إلى اليوم.
هكذا كان حال جزائريينا في أرض فلسطين والشام...
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 25/05/2020
مضاف من طرف : chouhada
صاحب المقال : فوزي سعد الله 31.01.2017
المصدر : facebook.com/fawzi.sadallah