الجزائر

جدلية الجمهور و المسرح (2)



يسعى المسرح دائما للوصول إلى الجمهور، وإن أخطأ في وجود وسائل الوصول أو غيّر من أساليبه ومناهجه ، لكن تبقى النقطة الحرجة التي تكون فيها الأحداث قابلة للتفجير أو التعقيد مسعى الفنان المشتغل بالمسرح ، فالضرورة هنا ترجع إلى التزام المؤلف و ارتباطه بجمهور يجب أن يبقى جالسا في مقاعده حتى النهاية ، إذ يجب أن يكون قادرا على خلق ذلك التوتر و القلق الدائمين للعبة المسرحية.في كثير من الأحيان يكون العمل المسرحي على مستوى النص جيد جدا، ذو أبعاد فنية رائعة ، لكن ذلك لا يغني شيئا من تحقيق نجاح جماهيري كما هو الحال مع بعض الأعمال التي تثير قضايا فكرية، مثل أعمال برنارد شو ، فهي من الناحية الفنية مسرحيات راقية ، مثيرة ذات صبغة أدبية تحقق الإمتاع عند قراءتها ، لكنها كعرض مسرحي تجعل من مهمة المخرج تكاد تكون إن لم نقل مستحيلة شاقة، فمعظم تلك الأعمال يستحسن قراءتها في البيت في فضاء خلوي للذهن ، و الشيء نفسه مع أعمال توفيق الحكيم ، فغالبية أعمال هذا الأخير لها المنحى نفسه ،فهي عندما تمر في العرض الركحي تصبح شيئا آخر، فأعماله مثيرة لقضايا ذهنية هامة ، لكن الفكرة على الركح تموت، إذا فشلت في شد المتلقي على مقعده طول مدة العرض .على المشتغل بالعمل المسرحي أن يجد دائما مكانا للمتلقي و لو بالتضمين، فحتى قدامى المشتغلين باللعبة كانت لديهم حيلا لشد المتلقي ، ففي أحيان كثيرة يكون الصراع في عمل مسرحي اشد عنفا إذا كان المتلقي على علم بالأسباب التي تثيره ، كما في مسرحية " أوديب " و غيرها من الأعمال الكلاسيكية القديمة ، بينما الشخص نفسه ( الممثل ) أو الأشخاص الكائنون على المسرح لا يعرفون من أمر هذه الأسباب و مشكلاتها شيئا.
رغم هذه العلاقة المتميزة التي تربط كلا الطرفين – الجمهور و المسرح- تبقي دائما هناك استفهامات تتكرر في الملتقيات و الدراسات وخاصة ما تعلق بالجماهير المسرحية و عن الدور الذي تلعبه وما مدي تأثير ما وقع على حدود العرض في الحدث المسرحي الواقع على الركح. بالنظر إلى الممارسات المسرحية التي اهتمت أكثر بالتنظير بمسألة مشاركة المتلقي في اللعبة المسرحية، نجد أن كاتب النص المسرحي حين يشكل عمله يضع نصب عينيه استثارة توقعات واستجابات معينة لدي الجمهور و كذلك المخرج يفعل حين تشكيل عرضه ويتجلى ذلك في البروفات و عمليات الحذف والتعديل وكذلك الأمر نفسه مع الممثل إذا اقتضت الضرورة ذلك كعملية الارتجال مثلا لتحقيق الواجب الأعلى أثناء الأداء فطبيعة اللعبة المسرحية على عكس الأشكال الفنية الأخرى ، فالجمهور في المسرح يدخل مع العرض في علاقة تبادلية يمكن أن تؤثر في مسار العرض و نجاحه، ومن ثم فلا يوجد عرضين مسرحيين يمكن أن يتماثلا تمام التماثل، وذلك بسبب دور الجمهور في الظاهرة المسرحية، وهذا ما يلاحظ في المسرحيات المعاصرة حيث أصبح دور المتلقي جد فعال في العرض المسرحي، تجاوز ادوار القارئ العادي الأشكال الفنية الأخرى ، رغم أن أي شكل فني يعتمد على وجود استعداد ما لدى المتلقي لتقبل أهدافه وموضوعاته كما تقول (ألان سينفيلد-A­SinifieId).
برز في السبعينيات من هذا القرن اهتمام المسرحيين بالجمهور كعنصر أساسي في الظاهرة المسرحية إلي جانب اهتمامهم بالمحتوى والأسلوب الفني ، هذا لا يعني طبعا إغفال جهود التنظير، فمثلا كل الإضافات التي ادخلها ( برشت- Brecht) تهدف الي تطوير ما اسماه في محاورات (the­Messing­of­diaIogue ) بمسرح عصر العلم، وهي ذات الإضافات التقنية التي وضعت لدفع الجمهور إلى التأمل والنقد ولكن دون أن يفقد المتعة المسرحية، كذلك الأمر نفسه مع (بسكاتور- piscator) و( مايرهولد-MeyerhoId ) إذ لجئوا إلى وضع الممثلين بين الجماهير.
وعن تصوره لطبيعة المسرح يري (جروتوفسكي- Grotowski ):« أنه يقع اهتمامنا على المتفرج ،الذي يستشعر حاجات روحية حقيقية والذي يرغب حقا من خلال مواجهة النص في تحليل ذاته"، ناهيك عن تحليلات( امبيرتو ايكو-U−Eco) التي أدت فيما بعد إلى زيادة الاهتمام بالجمهور المسرحي، وغيرها من الدراسات التي ما فتئت تعطي للجمهور مكانته المستحقة في اللعبة ، كما يذكر( تيودور شانك-ShankTheodore أن العمل الدرامي يجسد للجمهور أمرا حيويا يرتبط بحياته الانفعالية وهذا ما كان مستعصي على الجمهور إدراكه من قبل رغم وجود لبعض الفعالية لجمهور المسرح اليوناني بخلاف جماهير العصور الوسطي والقرن السادس عشر على سبيل المثال.
كان (جروتوفوسكي) في المسرح الفقير يشترط وجود متفرج واحد على الأقل، حتى يمكن للمسرح أن يضع وجوده ويكتسب صفة العرض " يتحدث ( برنارد بيكرمان- BeckermanB) عن عملية التواصل التي تتم بين ثلاثة أطراف: المسرحية، المتفرج الفرد و الجمهور بشكله الجماعي، إذ يعلل ذلك بأن للمسرحية مسارين، فهي تتجه إلى كل عضو في الجمهور بشكل فردي كما تتجه أيضا إلى الجمهور بشكله الجماعي وهي حقيقة يلمسها الفرد منا أثناء متابعته للعروض المسرحية بشكل عام. يقرر الجمهور الجماعي بالتصفيق أثناء و في نهاية العرض مدي القبول الذي يكنه للمسرحية، وبغض النظر عن أنماط الجماهير الموجودة داخل العرض الواحد.
بدأ الاهتمام بدراسة تكوين و تطلع جمهور معد من خلال أسلوب الاستبيانات الذي شاع اعتبارا من النصف الثاني من هذا القرن ، لرصد دوافع الجمهور وذوقه و الشرائح الاجتماعية التي ينتمي إليها ، فهناك جمهور طبيعي من منظورا لمسرح، وهناك جمهور طبيعي من منظور الشارع و هناك جمهور مصطنع يتقمص وضع الجمهور الطبيعي، فكل جمهور له أفق توقعات مختلفة، ومن ثمة يمكن أن نجد أفاق توقعات مختلفة لأنماط مختلفة للجماهير من خلال عرض واحد، إذ أن جمهورا لمسرحية يأتي بأفق توقعات ثقافية و إيديولوجية، كما أن أفق التوقع هذا لا يخضع لثبات، ومع ذلك فهي قابلة للصياغة قبل وأثناء وبعد العرض.
الجمهور مثل الفنان المسرحي له أفكار وقيم تتشكل اجتماعيا يخضعها لقراءة العرض من خلال التأويل، هذا ما يعطي للأعمال المسرحية شكلها المحسوس كما يرى ذلك السيميوطيقي (ياوس- Jauss)، بل حتى أن (موكاروفسكي-mukarovsky يذهب إلى أبعد من ذلك ،حينما لا يجد فارقا بين الممثل و المتفرج، إذ أن الممثل نفسه يتحول إلى متفرج و هو يستمع إلى زميله الممثل في لحظة ما من الأداء، إضافة إلى أفراد الكومبارس كما هو معروف. ومنه نخلص إلى أن كل مقومات العمل المسرحي يجب أن تشتغل على العنصر الفعال في المسرح ألا وهو الجمهور، لأن عملية التواصل المسرحي تبدأ و تنتهي بالمتفرج،كما يرى ذلك( كير ايلام-Lamіrіke) مع ترك مسافة معينة ، فالعرض المسرحي يتضمن بالضرورة التمييز بين دور المؤدين ودور الجمهور،حتى وإن ارتقت المسرحية بالجمهور في بعض الأحيان، إلا أن العرض في كل الأحوال لا يسمح بتدخل الجمهور في تشكيله، حتى وإن كان الجمهور الحالي المعاصر ،الذي يدفع ثمن بطاقة الدخول ويلعب دورا مهما في نجاح وفشل المسرحية، أي جمهور شباك التذاكر. ولذلك على المسرح إذا ما أراد استرداد دوره الريادي، الذي لازمه منذ تمظهره في تلك الطقوس البدائية الأولى، أن يحقق عنصري المتعة والفرجة حتى يصبح قادرا مرة أخرى على استجداء عواطف الناس والمحافظة عليها.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)