"...عندما اشتدت حدة التوتر بين النظام الإسباني الذي لم يقبل أدنى تفاوض حول حرية المعتقد بالنسبة للمسلمين وشدد قبضته عليهم بالقوانين والأوامر المَلَكِيَّة الجائرة التي تراوحت بين الغرامات المالية الباهظة والسجن والتعذيب حتى الموت والإحراق بالنار والطرد من البلاد والاستعباد وتشريد العائلات وبيع نسائها وأطفالها في أسواق النخاسة....بعد كل هذا، شَعر المسلمون أنه لم يبق لديهم ما يخسرونه وأن خياراتهم محدودة في التعاطي مع كل هذا التعسف.
"...في غرناطة، فقد بلغ اليأس بالموريسكيين ذروته، فتهامسوا على المقاومة والثورة، (...)، أو الموت قبل أن تنطفئ في قلوبهم وضمائرهم آخر جذوة من الكرامة والعزة، (...)، وكانوا يرون في المناطق الجبلية القريبة ملاذا للثورة (...)، وهنا يبدأ الصراع الأخير للموريسكيين وإسبانيا النصرانية" من حي البيازين في غرناطة التي كانت مُؤَطَّرَة بالأعيان والنُّخب المُسْلِمَة.
العديد منهم لجأوا إلى جبال البشارات في ضواحي عاصمة بني الأحمر بعد الغليان الذي ساد في حيِّ البيازين قبل أن يفجِّروا ثورتهم في يوم 23 كانون الأول/ديسمبر 1568م بالتزامن مع الاحتفال بأعياد الميلاد بعد أن أطلق فكرة الثورة وأشاعها بين الناس الصبَّاغ الموريسكي فرج بن فرج أحد أحفاد عائلة بني سراج الشهيرة في التاريخ الأندلسي وإحدى أكبر العائلات الغرناطية وأعرقها.
وهكذا عاد الموريسكيون مجددا إلى حمل السلاح ضد الذين اضطهدوهم، في البداية تحت قيادة فرج بن فرج الذي نجح في إلهاب مختلف الأقاليم الإسبانية، قبل أن يتفق الجميع على تعيين محمّد بن أمية، الذي يُسميه الإسبان دون فرناندو دي كردوبا فالور (Don Fernando de Cordoba Valor) الغرناطي أميرا عليهم معلنين استقلالهم وعدم اعترافهم لا بالتاج الإسباني ولا بسلطة الكنيسة ومحاكم التفتيش. وعادوا لممارسة طقوس ديانتهم الإسلامية جهرا ورغم أنف الملك ومحاكم التفتيش والبابا الذي بارك اضطهادهم. وأفرزت هذه الثورة قيادات ونُخَب سياسية وعسكرية موريسكية جديدة حققتْ انتصارات في الميدان بإمكانيات متواضعة وكان بإمكانها أن تذهب إلى أبعد من ذلك بفرض تحوّلات إستراتيجية لو وجدت السند الكافي من الإمبراطورية العثمانية ودول الجوار الإسلامية، أو على الأقل لو لم تتعرض إلى الطعن في الظهر من بعض الأنظمة السياسية الإسلامية وإلى التخاذل في أفضل الحالات...
واندلعت الاضطرابات والمعارك في منطقة البشارات وطالت "أجيجر وبرجة وأدرة وأندراش ودلاية ولوشار ومرشانية وشلوبانية وغيرها من البلاد والقرى، واستطاع الموريسكيون أن يتغلبوا بسهولة على معظم الحاميات الإسبانية المتفرقة في تلك الأنحاء، بل لقد سرت الثورة إلى أطراف مملكة غرناطة القديمة، حيث اندلع لهيبها في وادي المنصورة وفي قراه ودساكره (...) واشتد الأمر بنوع خاص في بسطة ووادي آش والمرية". ونشبت معارك عنيفة طيلة نحو عامين بين كتائب الموريسكيين والقوات الملكية وسقط فيها عدد كبير من القتلى لدى الطرفين وتخللتها مذابح إسبانية في حق مدنين موريسكيين عُزَّل قُتِلوا انتقاما من الثوار، وأُسِرتْ عائلاتهم، بمن فيها والدة محمد بن أمية وزوجته وشقيقاته...
على الضفة الجنوبية للمتوسط، وبتشجيع من الباب العالي وبإسناد لوجستي أندلسي من اللاجئين الذين التحقوا بالبلاد منذ سقوط غرناطة وقبلها وأبنائهم وأحفادهم، الذين كانوا يتطوعون في عمليات كوماندوس في صفوف القوات البحرية الجزائرية، كانت الجزائر العثمانية الفتية تعمل كل ما في وسعها لدعم الثورة بالسلاح والمال وحتى بإرسال المجاهدين المتطوعين من العثمانيين والجزائريين الأهالي.
بهذا الشأن، يقول المؤرخ الجزائري ناصر الدين سعيدوني إن العلج علي فكَّر في "إمكانية تقديم المدد لمجاهدي الأندلس، ولقد اجتمع لهذا الغرض جمعٌ من أهالي الجزائر في أحد المساجد وتمكنوا من اختيار المتطوعين للاشتراك في ثورة جبال البشارات التي اندلعت عام 1569م، وتمكن المتطوعون من النزول بشواطئ شرق الأندلس بنواحي المريّة ومَارْبِلَّة ما بين سنتي 1568م – 1569م، وقد بلغ عدد المتطوعين من الأتراك والأهالي عدة مئات مزوَّدين بكميات من الذخائر، منها 400 بندقية وإن ذهبت بعض الروايات إلى حدّ القول إن عدَدهم ناهز 4 آلاف رجل" ...".
رغم كل الجهود والتضحيات، ورغم الضربات القوية والجريئة التي تلقتها الجيوش الملكية الإسبانية، فشلت آخر أكبر وأهمّ ثورة لأحفاد أهل الأندلس في إسبانيا، من أجل استرجاع وطنهم وحقوقهم، فشلاً تراجيديًا بعد 80 سنة من سقوط آخر ممالكهم الإسلامية، مملكة غرناطة، عام 1492م.
وبدأتْ إثرها عمليات النفي الداخلي بتشتيت أهالي غرناطة الثائرة عبْر عدة مدن وقرى إسبانية في رحلاتٍ شاقة سيرًا على الأقدام في ظروف قاسية ولا إنسانية تسببت في وفات الآلاف إن لم يُعدُّوا بعشرات الآلاف. ورافق النفي الداخلي النفي إلى خارج البلاد والذي لم يتم بسهولة بل فاوضت الجزائر ملك إسبانيا مفاوضات شاقة ليسمح برحيل الثوار إلى أراضيها وذهبت إلى أبعد من التفاوض بتنظيم عمليات كوماندوس شديدة الجرأة لإجلاء مَن قدرتْ على إجلائهم بقوة السلاح بعد محاصرة مُدن وقرى ساحلية وإغلاقها لعدة أيام وليالٍ ريثما تنتهي عمليات الإنقاذ.
أحفاد هؤلاء المقاومين الأندلسيين/الموريسكيين لم يتبخروا بل إنهم موجودون إلى اليوم في الجزائر، ولو أننا نسينا...مثلما نسينا أشياء كثيرة...
في المقابل، تَكتُب مُعظَمُ الصحف الإسبانية باستمرار منذ الصيف الماضي عن هذه التراجيديا في ذكراها الـ: 450. من بينها صحيفة Granada Hoy (غرناطة اليوم) التي عَنْوَنَتْ، للتذكير، إحدى صفحاتها يوم السبت الماضي 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2018م بـ:
La guerra de las Alpujarras: un conflicto largo y sangriento en el corazón de la Monarquía Hispánica
(حرب البشارات: نزاع طويل ودموي في قلب المملكة الإسبانية) بقلم الباحث الجامعي والكاتب الغرناطي أنطونيو خيمينيث إيستريلَّا (ANTONIO JIMÉNEZ ESTRELLA).
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 21/12/2018
مضاف من طرف : nemours13
صاحب المقال : فوزي سعد الله
المصدر : فوزي سعد الله: الشتات الأندلسي في الجزائر والعالم. دار قرطبة. الجزائر 2016م.