الجزائر

ثراء فرنسي..



ثراء فرنسي..
كتاب الثروات الطائلة كتاب قديم نسبيا ألّفه الفرنسيان مونيك بنسون وميشال بنسون، ونقله إلى العربية حسن قبيسي، كان يندر في هذه الإفادة العظيمة التي يقدمها عن العالم البرجوازي في فرنسا، في الكتاب لم أجد هذه العفوية الممزوجة بروح الروبورتاج عندما يتعلق الأمر بالكتابة عن الطبقات والسلالات وأشكال الثقافات التي مربط الحراك الرمزي للجماعات الأرستقراطية في فرنسا وفي أوروبا عموما.لقد أدى التقسيم الماركسي للحياة بين فقراء الضواحي وأغنياء الأحياء المميزة، مفعوله المادي، المعيشي، الممسك بجزء من الحقيقة لا غير، وسار التقسيم على مناحي وميادين كثيرة بما فيها ذلك التقسيم الجيوستراتيجي، الكلاسيكي الذي يتحدث عن دول شمال ودول جنوب، أطروحة لم تكن هامشية لا يجب أن تحظى ببال أو أن تشغل ملاحظ، غير أن بيير بورديو لاحق الفكرة وضمّ إليها هذه المفهمة الرائعة المسماة "بالرأس المال الرمزي" مفهمة ومهماز أفرغ لها بورديو كسوسيولوجي عميق وجاد جهدا هاما وجهت كثيرا من الأعمال السوسيولوجية نحو بحث يكون ملما بعناصره الخفية ومحجوباته..
أحب القراءة عن الحضور الثقافي في النمط المعيشي للطبقات المحكمة الإغلاق، التي تتواجد بكثرة تحت الأضواء والعدسات غير أنها تخفي ثرواتها الرمزية، خيالاتها الجامحة، وميولاتها في الهندسة والصميم، في الطريقة والتفكير، في تصميم الثقافة والطقس الفني، في الاحتفال والشراب، إن استعادة قراءة كتاب جدالي في السلالات العائلية وطرائق تشكل رؤوس أموالها المنقولة وغير المنقولة، والاشتغال على رحلات شتائها ورحلات صيفها هو أمر لطيف للغاية إذا تصوّرنا أن فرنسا كانت بلد الأرستقراطية والسلوك المدني والحضارة اليومية وبالفعل هذا الذي أشعراني به الكاتبان بنسون ميشال ومونيك..
- يوجد الكتاب باللغتين الفرنسية وترجمة عربية جيدة - من 1934 إلى 1988 ظل التصريح الصحفي نفسه يتحدث عن أصحاب الثروات ال 200 بالتالي هم من يتحكم في اقتصاد فرنسا وسياستها، وزهاء عشرة منهم يتحكمون ويحكمون أكثر العشرة هؤلاء يجسدون نظام العائلات "وستظل لكسانسيون، نوفيل أوبسرفاتور، لوبوان، باري ماتش، غالا" تشدد بالذكر عليهم وتنفرد بصور عائلاتهم كذرية وكسلالة وكورثة..
العائلات والثروات والمال والعقار والشهوات والعطلات وأنماط العيش والإعلام الذي يترصدهم جيئة وذهابا.. ماذا يحدث لهذه العناصر وهي متشابكة وتنتمي إلى خيوط متواصلة الزمن ومع الحياة العامة وتمنع التسربات الممكنة الحدوث إذا تعلق الأمر بمخاطر رصد الثروة أو مباشرة الإفلاس..
إن عمل بنسون متقن منهجيا ويتضمن صبر الصحافيين للوصول إلى قول ما يهم وما ينطلي على خدع أكاديمية أو حيل من التحقيق الإعلامي لمدموغ بماركة الفلسفة، إنه ذهاب نحو بورديو وعودة منه للاجتهاد في علم الثروة وعلم الإحصاء وعلم الإناسة وعالم السلالات وعالم الميراث وعالم الموجودات المنقولة وغير المنقولة.
من يقصدون بالتحليل ويحظون بالحفر ليسوا فقط هم الأغنياء الذين يتصيدون الفرص والمال والذهب والكنز والوقت بل هم الحاملون لرهان مجتمعي منفرد في استثناءاته وفي تطلعاته، عن نقل الإرث، الإسم والذكرى، والهوية العائلية..
هذه الترسيمات ستحكم فئة أرستقراطية سلالية، متعاضدة بقيمها، وخالقة لنموذجها الإيديالي وتفصلها عن الفئة الأخرى المحمية بروح عصامية، المحتمية بالتألق الفردي ومتطاولة الطموح وجاذبة لأنظار الجمهور ولا علاقة لها إلا بالمال والمال وحده، فهي تقع في التصنيف البدئي الذي يهمل الصناعات الثقافية والفنية.
الصحافي السوسيولوجي بنسون وقرينته ظلا مستنكفين، مما يقلق العائلات من أصحاب الثروات الذين يتداخلون مع غيرهم من رجال الحظوة المتألقين الجدد..
قد لا أمرّ على الدراسة الإحصائية والنسب المئوية المطروحة في هذا العمل، فالدراسة هامة فعلا تقوم بتقديم معطيات ومنحنيات عن صعود الرأسمالات وكذلك عن حراكها كموجودات تؤسس للكيان السلالي الأرستقراطي في فرنسا..
إن عملا كهذا في الوصف والإحصاء والتوزيع والمخاصصات على أساس الضريبة والمدفوعات نال صفحات كثيرة في الفصل الأول عن الثروات الطائلة، وقارب الثروة كتفوق وكتميز وكإدارة جماعية للإدارة والمواريث وكميراث استمتاعي، وهي مفردات دقيقة، منتقاة، راصدة لحقيقة الملكيات كما هي راصدة لأوضاع المالكين وما يعكس ذلك من تصرفات حيال هذه الكلمة الجميلة والطاغية والمسماة بالثقافة، إن ما يكرهه الأرستقراطي هو أن يسأل عن تناسب ثرواته ويشمل ذلك الموجودة مع مؤهلاته المعرفية ومواهبه الإنسانية، حديث بمنتهى الإلمام والتمكن قالها لنا الصحفيان عن المؤسسة الأرستقراطية..
ليس الموضوع فقط في الاقتصاد ولغته، وفي الأملاك والملكيات في رأس المال وفي المداخيل، بل هو أيضا في النخب، النخب المالكة وهوياتهم، ما يحملونه من أفكار وما يأتون به من مشاريع، لا يكفي الاسترشاد بأي دليل لمعرفة من هو الأرستقراطي في دولة فرنسا العظيمة، بأزمنتها العقائدية، وبسواد الفكر الأوحد، فإن هذه الثروة باتت بمجردها، تضفي على صاحبها سلطة رمزية لا مثيل لها كما يعبّر بذلك إينياسيو راموني، المحرر الكبير في صحيفة لوموند ديبلوماتيك.
النخبة المالية التي هي سلسلة العقل الأرستقراطي ليست نخبة متوسطة التأهيل أو سليلة طفيلية نبتت على أعشاب القصر أو صاعدة بفضل انهيار سلم الكفاءة والأداء الجيد..
إن النخبة داخل المجتمع الأرستقراطي هي نخبة إداريين تنفيذيين ورؤساء عمل ونشطاء في البورصة وصناعيين وهؤلاء لهم ممتلكات عقارية وأراض زراعية وسندات توفير وحسابات جارية وتأمينات على الحياة وأثاث منازل ويدفعون إتاوات ضريبية عائلية عالية يدفعونها ويبدو أنهم حاصلون على إدارة جيدة تمكنهم من مواصلة الاكتناز والكسب والإبقاء على محمياتهم..
الثروة أخت المكان الأليف، يميل الغني إلى الحي الراقي، بمواصفاته المكانية المتميزة، فالمرء يزداد اعتناء إذا عاش وسط أنداده وقرنائه وهنا يمكن الإشارة إلى ميزة الأحياء الفرنسية فهي أيضا جالبة لنشاط اجتماعي اقتصادي وفني يكرس مبدأ الصيرورة في مناقلة الثروة والاستمتاع بها ولطالما ارتفعت معنويات الساكنة الذين يهيمنون محليا وعلت في سيماء وجوههم الراحة والارتخاء والطراوة موازاة مع البؤس الذي يطفح به حي من أحياء الضواحي في مرسيليا أو ليون، فإذن المكان الأليف لهذا الأرستقراطي النبيل هو أن يقطن في "الكوت دازور" أو كان أو غرب باريس..
الثروة أيضا هي أخت المصاهرة، ففكرة أن يوجد ثري واحد ينقل اسمه أو يوزعه لمن يستطيع أن يكون فاعلا تحت اللائحة فكرة لطيفة جدا في السلوك الأرستقراطي، حيث الاسم الجديد هو أيضا رأس مال رمزي يعاظم من الوجاهة ويؤكد على اعتبارية العائلة وتقدمها النوعي في الكسب والإحراز.
عند الأرستقراطي اجتماعوية كبيرة وأنسنة ومؤاخاة، هي جزء من ثقافته وسلوكه ينتمون فأكثر الأرستقراطيون لينتمون إلى النادي وهذا النادي يعرض علينا كقاموس للشخصيات وسيرهم مصحوبة بأرقام هواتفهم ويكونون في الأحزاب السيارة، أو مسؤولين في الحكومة، أو في الحزب الشيوعي، أو كبار مدراء المنشآت أو أشخاص بارزين في الكنيسة أو في الجيش، وإن قموسا إشكاليا كهذا علق عليه قاموسا بنسون، في كونه قد يضع البرجوازي مع الأرستقراطي في سلة واحدة وهو أمر محال في الثقافة الفرنسية، فحلم البرجوازي أن يسرق خطوة لفظة الكبير تلك التي تنفرد بها قيادات تنتمي إلى الأصول إلى الأرستقراطية ذات القرون والأسلاف، ولذلك يتحدث البرجوازي عن الأرستقراطي دائما بلفظة "كنت أعرفه جيدا" أي البحث عن العراقة والامتداد والطمع في الوصل بالأعراق..
قد يتفق الأرستقراطي مع البرجوازي في نفسية الخوف والفوبيا من الآخرين، أي العامة، الفقراء، المرعبين والمشوشين على الأولاد فأغلب ما تفعله الطبقتان تباعا وبالتشابه هو المساكنة مع القرناء والنأي عن الجماعة وهوامشها، في المنتجعات كأركاشون ودوفيل وبيارتيز وهي محطات استجمامية واقعة بين التلال المشجرة، هندستها فريدة، فيلاتها نورماندية، شالياتها سويسرية الطابع، نفحة سحرية مضفاة على الجوّ الاستثنائي سارقة لخواطر أبناء وبنات الأرستقراطية النبيلة والبرجوازية الصاعدة..
لقد حمل هذا العمل حملا ثقيلا وهو يقرأ الداخل الأرستقراطي بنظامها السلالي وكذلك الإنساني والثقافي والمجتمعي تماسك الوحدات، المنهجية الواضحة ويزداد هم العربي الباحث في هذه الموضوعات إذا وجد "الغلق" غير الطبيعي الذي يحيط به الثري نفسه، وهو ثري يكنز المال والعقار والأرصدة ولا يكنز اللوحات الفنية ولا يشارك في الرأي ولا يعني له شيئا الترعرع ضمن متحف، كما قال بنسون..
a_maouchi@live. Com


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)