تشتمل المدينة الإسلامية على طرق ثانوية وأخرى رئيسية، وأزقة ملتوية ومتشعبة نافذة وأخرى غير نافذة ، ويعد الزقاق الممر الخاص المؤدي إلى المجموعة السكنية في الحي الذي لا يقطنه غالبا إلا أفراد قبيلة واحدة أو أسرة واحدة، ومن يتبعها من موالي وخدم، وينتهي الزقاق أو الدرب عادة أمام منزل رئيس القبيلة أو رب الأسرة، الواقع في قلب المجموعة أو الخلية السكنية 1.
إن مدينة تلمسان لا تخرج عن هذه القاعدة ولا تشد عنها، ولا تبتعد عن وظائف هذا التخطيط ومعلمه، فقد عرفت هي الأخرى مراحل تطور كثيرة في خططها منذ نشأتها وحتى عهد بني زيان، الذين كان لهم الفضل في تخليد مآثرها، وتوسيع عمرانها وجعلها قاعدة لحكمهم ومركز دائرة نفوذهم في المغرب الأوسط.
تتجلى هذه المآثر في الآثار الباقية بالمدينة كالأسوار، والمساجد والمآذن والقصور والمنازل والزوايا والمدارس، والأبراج، فهذه المعالم العمرانية صورة واضحة تبين مدى اهتمام ملوك بني زيان بتشييد العمران وتخليده؛ وتعكس أيضا ازدهار العلوم والفنون والصناعات وانتشار الأسواق والقيصاريات بالمدينة وغيرها من المرافق العامة، مما يدل على تطور المجتمع التلمساني ورقيه الحضاري في ذلك الوقت.
لم تزل هذه المدينة تتسع وعمرانها ينتشر ويتزايد وعدد سكانها ينمو مع مرور الزمن، وقد لاحظ ابن خلدون هذه الظاهرة في تلمسان فعبر عنها قائلا: " فاختطوا بها القصور المرتفعة، والمنازل الحافلة وغرسوا الرياض، والبساتين واجروا خلالها المياه، فأصبحت أعظم أمصار المغرب، ورحل إليها الناس من القاصية، ونفقت بها أسواق العلوم والصنائع، فنشأ بها العلماء، واشتهر بها الأعلام، وضاهت أمصار الدول الإسلامية، والقواعد الخلافية" 2.
تتألف مدينة تلمسان في العهد الزياني من مركزين عمرانيين يفصل بينهما سور به أبواب للعبور والتنقل داخل المركزين، ولعل الغرض من عدم إزالة هذا السور الحاجز، هو فصل الأهالي الذين يسكنون المركز الشرقي (مدينة أقادير) عن المركز الغربي (مدينة تاقرارت) في بداية الأمر، لأن المدينة الحديثة كانت تضم المؤسسات الحكومية وثكنات الجيش وقصور الأمراء ومنازل الحاشية والحشم، فضلا عن القصبة 3.
وما يثبت وجود السور الفاصل بين المركزين ما ذكره الرحالة العبدري بقوله: "وتلمسان مدينة كبيرة سهلية، جبلية جميلة المنظر، مقسومة باثنين بينهما سور" 4، ويؤكد ذلك ابن مرزوق الخطيب بقوله: "دخلت يوما من باب من أبواب تلمسان، وهي باب العقبة وقد زرنا هناك الدوادي 5، فلما خرجنا من الموضع المعروف بباب زيري صاعدين إلى تلمسان العليا" 6.
ويبدو أن الطريق الذي سلكه ابن مرزوق برفقة السلطان أبي الحسن المريني، يربط بين باب مدينة "أقادير" الشرقي ببابها الغربي، عبر المدينة العتيقة والمؤدي إلى مدينة "تاقرارت"، وقد اخترق الموكب عدة أحياء شعبية على حافتي الطريق، وكذلك المحلات التجارية الكثيرة على طول الطريق. وكان الموكب السلطاني الذي برفقة ابن مرزوق التلمساني قد زار ضريح العالم الداودي التلمساني وتبرك به، ووقف على بعض الأضرحة التي يرقد فيها أصحابها من الصالحين عند باب زيري، واطلع على أحوال الناس بالمدينة، وتحدث مع أعيانها وشيوخها القاطنين في هذه الأماكن.
وكانت الفئات الشعبية وبعض الفقهاء يفضلون الإقامة بمدينة (أقادير) ولا يريدون لها بديلا لأنها تحتوي على مسجد المولى إدريس الأول العتيق، فقد كان الناس يكثرون من زيارته والتبرك به والصلاة فيه، بل كانت هذه الشعيرة الدينية مفضلة بهذا المسجد عند كثير من أهل تلمسان، وخاصة منها صلاة الجمعة. وحتى السلطان يغمراسن كان يهتم به كثيرا ويوليه عناية خاصة، ويصلي فيه من حين لآخر 7. وكان بعض فقهاء تلمسان الحديثة "تاقرارت" يتنقلون إلى "أقادير" يوم الجمعة للصلاة في مسجدها، ومن بين هؤلاء أبو عبد الله محمد بن مرزوق الجد 8.
وقد قام السلطان يغمراسن بتشييد مئذنة هذا المسجد، التي ظلت شامخة تتحدى الزمن وتزين سماء تلمسان وعمرانها، إلى جانب أختها بالمسجد الجامع بتلمسان العليا (تاقرارت). وكانت الأولى قد بنيت قاعدتها بالحجر المنقوش، المجلوب من بقايا مدينة (بوماريا) الرومانية، بينما استكمل بناء الجزء الأعلى منها بالآجر الأحمر، وكانت هندسة الصومعة وزخرفتها متأثرة بالفن المعماري الأندلسي وزخرفته 9.
بلغت مدينة تلمسان العليا (تاقرارت) أقصى اتساع لها في العهد الزياني، حتى فرضت نفسها كمدينة رسمية يقطن السلطان بقصرها المجاور للمسجد الجامع والمتصل به 10، وهو القصر الذي بناه المرابطون وسكنه الموحدون، والمسمى بـالقصر القديم. وكان يغمراسن أيضا شديد الاهتمام بمسجد هذه المدينة، ويحرص كل الحرص على أداء الصلوات فيه، ويستمع فيه إلى بعض الدروس التي كان يلقيها بعض الفقهاء على الطلبة في المجالس العلمية المختلفة. وبنى له مئذنة تشبه مئذنة مسجد "أقادير"، بلغ طولها خمس وثلاثون مترا، مبنية هي الأخرى بالآجر ذي اللون البني المائل إلى الاحمرار، بما فيها الزخرفة القاعدية والجدران. كما أدخل على المسجد تعديلات وتغييرات هامة، فقام بتوسيعه حتى أصبح مستطيل الشكل، يبلغ طول ضلعه ستين مترا، وعرضه خمسين مترا، وبالتالي صارت مساحته الإجمالية نحو ثلاثة آلاف متر مربع، فجاءت عمارته تحفة فنية رائعة، ولا يزال أهل تلمسان خاصة والجزائر عامة يتباهون بهندسته وزخرفته المتأثرة هي الأخرى بالعمارة الأندلسية ، فالحجارة والآجر والقرميد المربع المستطيل ذو اللون البني المائل إلى الحمرة والوردي، هي مواد البناء المفضلة لأهل تلمسان عصر ذاك 11.
وكان السلطان يغمراسن يهتم بالتشييد والبناء والعمارة دون أن يتظاهر ويتباهى بذلك، فقد أوضحت النصوص التاريخية أنه كان يعزف عن ذكر اسمه على البناءات، وتسجيله على المعالم العمرانية التي يأمر بإنشائها كغيره من السلاطين والملوك، ويتبين ذلك من خلال الحوار الذي دار بينه وبين أحد مساعديه حينما أشار عليه بكتابة اسمه على المسجد الجامع بتلمسان العليا (تاقرارت)، بعد أن أضاف إليه مساحات وفضاءات عمرانية أخرى، فأجابه يغمراسن بلهجة زناتية " يسنت ربي" ومعناها "علمه عند الله" 12. وأهدى لهذا المسجد "ثريا" فخمة على شكل أسطواني، كبيرة الحجم، بها أربع حلقات من خشب الأرز، مطلية بالنحاس الأصفر المنقوش، تضم عددا من المصابيح يبلغ طول محيط تاجها ثمانية أمتار، تحملها سلسلة متينة مثبتة في القبة الوسطى للمسجد .
ويعتبر المهندسون والأثريون نمط بناء المسجد الجامع، من أبدع المخلفات الأثرية الزيانية، كما تعد أيضا الصومعتان أو المئذنتان اللتان بناهما وشيدهما السلطان يغمراسن في القرن السابع الهجري (13 م)، من أجمل مباني تلمسان.
1 : عبد العزيز الدولاتلي، المدن العربية التقليدية بين الأصالة والمعاصرة، ضمن كتاب الآثار الإسلامية، تونس:المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1985، ص15.
2 : عبد الرحمن ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، بيروت، 1971، ج 7، ص ص161-162.
3 : 2- أطلق ابن مرزوق الخطيب في مسنده على مدينة أقادير (أكادير) اسم تلمسان القديمة، وعلى تاقرارت (تاكرارت)اسم تلمسان العليا. أنظر: محمد ابن مرزوق الخطيب، المسند الصحيح في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، تحقيق: ماريا بيغيرا، الجزائر: ش و ن ت، 1981، ص175.
4 : أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري ، الرحلة المغربية، تحقيق: محمد الفاسي: الرباط، 1968 ، ص11.
5 : يوجد ضريح الشيخ أبو جعفر الداودي التلمساني المتوفى سنة 402هـ/1011م، عند باب العقبة الشرقي.
6 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المسند الصحيح في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، تحقيق: ماريا بيغيرا، الجزائر: ش و ن ت، 1981، ص175.
7 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20، ورقة 5.
8 : محمد ابن مرزوق الخطيب، المجموع، مخطوط، الرباط: الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20، ورقة 5.
9 : أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن مريم، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، تحقيق: محمد بن أبي شنب، الجزائر: المطبعة الثعالبية، 1908، ص79.
10 : Georges et William MARCAIS : Les Monuments Arabes de Tlemcen, Paris, 1903, p.140.
11 : عبد الرحمن ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر ، ج 7، بيروت، 1971، ص 161.
12 : يحي بن خلدون، بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد، تحقيق: ألفرد بال، الجزائر، 1911-1913، ج1، ص207.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 20/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com