إذا كان من الصعب جدا إدراك حدود التوتر الذي بسط غمامته السوداء هذه الأيام على السماء بين السودان وجنوب السودان، وبات من الصعب تكهن مآل الأزمة التي انفجرت لتحول أبناء الوطن الواحد بالأمس إلى أعداء اليوم، فالمؤكد أن ما نشهده من تصعيد حول منطقة »هجليج« النفطية الذي بلغ درجة الاقتتال وسقوط مئات القتلى بين الجانبين يضعنا أمام علامة استفهام كبرى لنتساءل هل التقسيم و«ذبح» الدول ونسف وحدتها والذي يراه البعض كالبتر والكي آخر العلاج، يعود بالفائدة على الشعوب ويُنهي مشاكلها..؟ أم أنه على العكس تماما، يضع أمن واستقرار وسلامة هذه الشعوب على كف عفريت ويحوّل حدود بلدانها إلى قنابل موقوتة، جاهزة للانفجار في أي وقت..!
في الواقع إن الجواب على هذا السؤال لا يبدو بالصعوبة التي نعتقد، ويمكن أن نستشفه من تجارب التقسيم التي شهدتها عدة دول، حيث انتهب إلى العداء والحروب الباردة والمسلحة والقطيعة التامة، وخلصت ببعض الدول الذكرية في النهاية إلى إدراك »جريمة« التقسيم، فاستعادت وحدتها، وهي اليوم من أقوى الدول في العالم.
مراجعة بسيطة لدروس التاريخ، يضعنا أمام تجربتين متشابهتين إلى حد كبير، وإن اختلفتا في النهاية تؤكدان بأن تقسيم الدول الواحدة لا يحل المشاكل بل يضاعفها ولا يقوي الشعوب بل يُضعفُها.
ويلات التقسيم من كوريا إلى ألمانيا
لنقف عند تقسيم شبه الجزيرة الكورية التي كانت أرضا واحدة وشعبا مُوحدا، قبل أن تتجاذبها الشيوعية الحمراء من الشمال والرأسمالي المتوحشة من الجنوب وتمزقها وتدخل نصفيها في حرب دامية مابين 1950 و 1953 ، وماتزال الكوريتان في حالة حرب تقنيا، إذ لم توقعا إتفاقية بسلام منذ انتهاء صراعهما التاريخي، وحدودهما رغم أنها رسميا منطقة منزوعة السلاح، إلا أنها في واقع الأمر، الأكثر تسلحا في العالم وهناك آلاف الآليات العسكرية الموجهة في الاتجاهين.
لقد أدى تقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى خلق دولتين متنافرتين بنظامين متناقضين واحدة في الجنوب تُسبِح بحمد أمريكا وهي مدللة وتحظى بالدعم الغربي وشعبها يعيش في رفاهية، وثانية في الشمال، مازالت متمسكة بالشيوعية التي اندثرت حتى من عقر دارها، نظامها صامد أمام كل الزوابع والتحديات ويحمي نفسه بالذرع النووي، أما شعبها فقد حولته العقوبات والحصار الغربي إلى واحد من أفقر وأغبن شعوب المعمورة.
إن خطورة وسلبية تقسيم الدول وتفتيت وحدات الشعوب لا نستشفه من تجربة الكوريتين، بل من تقسيم ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية التي تحولت إلى دولتين تسبحان في اتجاهين مختلفين، وحولهما تدور رِحَى الحرب الباردة التي لم تخمد نارها إلا بسقوط الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، وما تبعه من انهيار جدار »برلين« ليعيد الشعب الواحد توحيد أرضه لتنطلق ألمانيا بعدها كالسهم في سماء التطور والتقدم، حتى أصبحت اليوم في صدارة الدول الأكثر تقدما وتأثيرا على الساحة الدولية.
الانفصال يطوي مشكلة ويخلق أخرى
من خلال التجربتين الكورية والألمانية يمكن للمرء أن يدرك بأن التقسيم يدمر الأمم والشعوب ويخلق الصراعات والتوترات وحتى الحروب، والذكي هو من يلحق نفسه كما فعل الألمان قبل فوات الآوان.
والظاهر أن التقسيم الذي ظنّ الجميع بأنه سيكون نهاية لمشاكل السودان هو على العكس تماما، بداية لمشاكل أخطر قد تقود إلى استئناف الحرب، التي استمرت تعصف بالشمال والجنوب لعقدين كاملين وخلفت مليوني قتيل وشردت أضعافهم، وأهلكت البُنى التحتية الضعيفة أساسا، وخلّفت ضغائن بين أبناء الشعب الواحد ولم تنته إلا بتوقيع اتفاقية »نيفاشا« في 2005 والتي قضت »بنحر« السودان.
والخوف مما يمكن للأيام أن تحمله للسودانيين، لا نستشفه فقط مما يجري هذه الأيام من صراع واقتتال في منطقة »هجليج« الحدودية، وقبلها منطقة »أبيسي« النفطية، بل من القضايا الشائكة العالقة بين البلدين، والتي تبدو كقنابل مغروسة بين الحدود قابلة للانفجار في أية لحظة.
فالتقسيم الذي مرّ عبر استفتاء جانفي 2011، قفز على حسم العديد من المسائل المصيرية التي بقيت معلقة بين الجانبين وعلى رأسها، ترسيم الحدود التي تمتد على طول 1800 كلم وتبعية بعض المناطق النفطية التي يصر كل جانب على ضمها لبلده، ثم تقسيم الثروة والديون ووضع المواطنين في أراضي الجانبين وغيرها من القضايا الهامة.
قنبلة موقوتة اسمها النفط
لا نستغرب مع القفز على تسوية هذه المشاكل أن تقوم حربُ ُ من أجل النفط بين السودانيين، خاصة وأن الجنوب استأثر بأكثر من 90 ٪ من إنتاج الذهب الأسود، وعائداته، إذ يبلغ هذا الانتاج أكثر من 350 ألف برميل يوميا، في حين انحصر إنتاج الشمال إلى أقل من 115 ألف برميل، وهو بذلك لا يريد أن يفقد حقولا وفيرة تقع بهجليج وأبيسي والتي يضع الجنوب أعينه عليها أيضا.
كما تطرح مسألة أخرى مرتبطة بهذا القطاع وهي مرور النفط الجنوبي عبر الشمال والرسوم المترتبة عن هذا العبور، ولا أرى حلا لهذه المشاكل الخطيرة مادام كل طرف متشبث بمواقفه، وحتى التحكيم الدولي قد يعجز عن حلها وتنقية الأجواء بين الجارين العدوين.
ويبقى السؤال مطروحا، هل استعجل السودان الإنقسام قبل حسم كل القضايا المصيرية..؟ الجواب بالتأكيد نعم، إذ كان أولى بالطرفين الشمالي والجنوبي تحصين حدودهما ودولتيهما اللتين تعيشان أوضاعا اقتصادية صعبة، باتفاقيات مكملة تحفظ حقوق كل طرف، أما وأن السودان الشمالي والجنوبي وضعا العربة قبل الحصان، فالمحظور (النزاع)، قادم لا محالة، إلا إذا تمّ تدارك هذه المخاطر وسارع الطرفان إلى الجلوس حول طاولة الحوار لرسم الحدود وتقسيم النفط وتسوية كل المسائل العالقة، وهو أمر قد يستغرق وقتا مع سوء التفاهم المتجدر بينهما.
ونعود إلى نقطة البداية لنؤكد بأن الإجهاز على الدول ونحرها وتفتيت وحدة شعوبها لا يحُل المشاكل بالمرة، بل يعمقها ويفاقمها، ولا نستغرب يوما عودة السودان الموحد من جديد.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 24/04/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : فضيلة دفوس
المصدر : www.ech-chaab.net