الجزائر

تفكيك السّياج الدوغمائيّ في الرّاهن العربيّ



تفكيك السّياج الدوغمائيّ في الرّاهن العربيّ
إنّ تجديد الفكر الإسلاميّ حسب محمد أركون ينطلق من تفكيك بنيته التي تحدّد طريقة اشتغاله، أو ما يسمّيه تفكيك السّياج الدوغمائيّ، والسّياج الدوغمائيّ حسب أركون: جهاز أو بنية عقلية( منظومة القيّم والمعتقدات) تجعل الأفكار الصادرة عن كلّ وضعية إشكالية حدّية قطعية، وتمنع المفكر من تجديد أفكاره في أيّ ظرف أو مشكل يصادفه. يشتغل هذا الجهاز ضمن الوثوقية، المتجلّية في الرّأي الواحد والرّؤية الواحدة، أي الروح المغلقة المعوّقة. فهو لا يسمح بالانفتاح على احتمالات متعدّدة في معالجة المشاكل، ولا يتيح إمكانيات متعدّدة لإنتاج أحكام جديدة ولا يتبنى أصلا الحلول الجديدة. السّياج الدوغمائيّ يفتح كلّ الأبواب بنفس المفاتيح. يشتغل ضمن قانون الاستبعاد وهو قانون الممنوعات، والممنوعات ثلاث في المجتمعات العربية: الجنس والسياسة والدّين فكلّها من المحظورات التي لا يمكن المناقشة فيها. في مجال الدّين: لا يمكن مناقشة قضايا الألوهية والخلق ولا يمكن تصوّر الإيمان خارج التعاليم القطعية في المسجد والمدرسة والأسرة. وأيّ فكرة جديدة تعتبر مروقا وخطرا على قداسة الدين، بل مجرد مناقشة لموضوع الدّين بخلفية جديدة يعتبر رجسا من عمل الشيطان، فالدّين محكوم بسلطة فقهية تعتمد مرجعية قرون الصالحين التي لا تعني بالضرورة صلاحية أحكامها للعصر المعاصر.
ثمّ إنّ المحظور الثاني: الجنس من المواضيع الطابو، في الأسر وفي البرامج التربوية بالمدارس والجامعات، فالحذف مزدوج في موضوع الجنس، على مستوى الأسرة أوّلا هناك كبت للحديث عن الموضوع بين الزوجين نتيجة العادات والأعراف التي تربط الحديث المفرط عن الموضوع سمّة الانحراف، فقلّة من الأزواج من يجدّدون ثقافتهم الجنسية، ويولون أهمّية لهذا الجانب في تمتين العلاقة بين الطرفين، كما يشتغل الكبت في أحاديث الآباء مع أبنائهم، فالتربية الجنسية من الآباء للأبناء غائبة، ويقصد بالتربية الجنسية الحديث عن الموضوع بصفة علمية لمساعدة الأبناء على اكتشاف أجسادهم بطريقة سوية، و مرافقتهم في تسيير غرائزهم الطبيعية، وفق طريقة سليمة، بتوجيههم إلى الرياضة كي لايقعوا في ممارسات تضرّهم كالعادة السرّية أو الزنا. ثانيا يشتغل الكبت على مستوى المدارس التي تلغي الموضوع من برامجها التربوية، مع أنّ تلقين التربية الجنسية السليمة بدأت بمدرسة الرّسول "ص" الذي اهتمّ بمناقشة الموضوع والاستماع إلى انشغالات المسلمين المتعلّمين، حتى النّساء منهم. الجنس حاجة إنسانية طبيعية وثقافة تحتاج إلى تجديد وإبداع، والحاصل في المجتمعات العربية مصادرتها في كلّ المستويات السّابقة، والنتيجة المترتبة عن ذلك شيوع الملّل والفتور بين الأزواج بعد معاشرة قصيرة، وقد يصل إلى الخيانات الزوجية أو الطلاق، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أثبتت الإحصائيات أنّ الشباب العربيّ الأكثر إقبالا على المواقع الإباحية، رغم الوعظ الدّينيّ المنتشر في أوساطهم، لأنّه لا يكفي أن يتحدث الإمام مثلا عن الاستقامة والإيمان وصيانة النّفس من الزنا والدنس ليستقيم الشباب، فالحاجة البيولوجية لا يمكن محوها بمجرد تعويذة إيمانية.
أما العنصر الثالث والأخير من السّياج الدوغمائيّ: السياسة، يتبوأ الرّئيس في المجتمع العربيّ مقاما سياسيا يمكن تسميته بمقام الألوهية السياسية، فلا أحد ينتقده. والأغرب تسخير الدّين في المساجد وفي البرامج لدعم هذه الألوهية، فالشائع في أغلب أئمة الدول العربية توفير الشرعية الدّينية لسياسة الحكام، ونورد مثالا شائعا عن واجب طاعة وليّ الأمر التي تسوّق كفتوى في كلّ الدوّل العربية، وإذا انتفض الشعب ضدّ الاستبداد كما يحدث في بعض البلدان العربية، فإنّ التهديد بالطائفية أو الخطر الأصوليّ هو النتيجة المرجوة، مثلما يحدث في سوريا حاليا، أين وضع الشعب السوريّ أمام خيارين، إما استمرار النّظام نفسه أو الحرب الأهلية. وهذا هو السياج الدوغمائيّ، إما هذا أو هذا.
لما تشتغل الممنوعات الثلاث: السياسة والجنس والدّين لسنوات بطريقة وثوقية فإنّها تكوّن نواة صلبة يصعب تفكيكها حسب أركون. لأنّها أصبحت بنية عقلية للتفكير، ولا يمكن الانعتاق منها في ظرف زمنيّ قصير، بل يحتاج تفكيكها سنوات من التمرّس والعمل الأكاديميّ والاجتماعيّ والسياسيّ لتفكيك النواة الصلبة جدا. ويقع الرّهان على المفكّرين الذين أسمّيهم المفكّرين المختلفين، الذين لا يكتفون برطانة التنظير التجريديّ، بل يجهرون بأفكارهم الجديدة والحداثية أمام الجمهور، أيا كان الجمهور، رئيس دولة، أب وأم، أصدقاء، عامة النّاس. هم المفكرون المختلفون الذين لا يقبلون المسلمات، ويجهرون بآرائهم غير المفكّر فيها، على كلّ المستويات، الجامعة والمدرسة و صالونات السياسة والأسرة. وإنّ حاجة المجتمعات العربية إلى مفكرين مختلفين حاجة حضارية، فوحدهم المفكرون المبدعون من يبثون الروح في موات الأمّم على حدّ تعبير مالك بن نبيّ.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)