كثيرا ما كانت أسماء الشعوب محلّ تنابز تبعا للعلاقات التي تربط بينها في الحرب والسلم أو لمجرد انطباعات تتراوح بين الإعجاب أحيانا والسخط في كثير من الأحيان بل قد تصل هذه العلاقات إلى التشنج والاشمئزاز في بعض الفترات، أمّا الحروب والغزوات فهي التي تترك دون ريب آثارا بليغة قد ترسم للشعب المعتدي صورة بشعة لدى الشعب الذي وقع عليه العدوان. ونعتقد أنّ كثيرا من الأسماء الشائعة التي تُعرَف بها الشعوب ليست تلك الشعوب هي التي أطلقتها على نفسها، خاصّة الأسماء التي تحمل صفة تحطّ من شأنها، ولكن الاسم مهما كان مدلوله اللفظي سيأخذ في التداول مع الزمن المعنى الاصطلاحي ويتم تناسي المعنى اللفظي نهائيا، وفي هذا السياق تحضرنا القصة التي تروى عن قبيلة عربية وصمها خصومها باسم أنف الناقة وكان هذا الاسم وراء الكثير من الاشتباكات بين أفراد القبيلة ومن يستعمل هذه التسمية لإهانتهم إلى أن جاء شاعر تمكّن بذكائه من المقارنة بين الأنف والذيل وجعل هذه القبيلة في محلّ الأنف وخصومهم في محلّ الذيل فانتقل أبناء القبيلة من الشعور بالمهانة إزاء هذا الاسم إلى الشعور بالفخار لأن كلّ من حاول إغاظتهم بعبارة أنف الناقة ذكّروه بأنه هو ذيلها كما جاء في القصيدة التي امتدحهم فيها هذا الشاعر (1) : قوم هم الأنوف والأذناب غيرهمُ **** ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا وقد تعكس أسماء الشعوب صفة فيهم كالبداوة أو أن تكون دليل انتماء إلى مدينة أو إقليم أو عنوان اختلاف في اللون أو اللغة… الخ أردنا من هذه المقدّمة أن نصل إلى موضوعنا وهو الاسم الاثني l Ethnonyme الذي تعرَف به الشعوب الأمازيغية (2) في شمال أفريقيا وهو البربر(3) في العربية و Berbers في الانكليزية و Berbères في الفرنسية، وهذا بعد ما لاحظناه من جهل وغوغائية عقب مقابلة كرة القدم بين الجزائر ومصر حيث تابعنا الاستعمال غير الصحيح للاسم وكان القصد هو النيل من كرامة الشعب الأمازيغي وإهانته ووصفه بأشنع الأوصاف(4). ولهؤلاء نقول أنّه كان لا بدّ من الرجوع إلى التاريخ وإلى الدراسات المتخصصة لكي لا يقع الكثير في الخطأ غير المقبول، للتعرف اولا على بلاد البربر (Berbérie) المسماة في الجغرافيا السياسية شمال أفريقيا (North Africa, Afrique du Nord) وعلى الشعوب الأمازيغية : المور والنوميد (Maures et Numides) والجيتول والقرامنت (Gétules et Garamantes) … الخ وهي أسلاف الشعوب الحالية : الليبيون والتونسيون والجزائريون والمغاربة والموريتانيون … الخ ، وهي شعوب تجمعها كلها (قبل استعراب قسم منها منذ الفتح الاسلامي) اللغة الواحدة وهي اللغة الليبية (Le Libyque) التي انحدرت منها لهجات اللغة الأمازيغية الحالية، ويضمّها إقليم واحد هو الشمال الأفريقي المعروف في لغة الصحافة العربية بالمغرب العربي. وأول كتب التاريخ التي يمكن الرجوع إليها هو كتاب ابن خلدون : العبر المعروف بتاريخ ابن خلدون حيث جاء فيه بعد استفاضة أنّ الاسم يحمل مدلول اللغة الأمازيغية التي كما قال يتميّزون بها، ولا يفهمها العرب فوصفوها بالبًَربرة أي الكلام غير المفهوم وكان هذا في عصر بلغ فيه مؤشر الاعتزاز باللغة العربية أعلى درجاته فهي لغة الجنة والوحي وما سواها كلام وبربرة وعجمة ورطانة …الخ وطبيعي أن لا يفهم العربي اللغة الأمازيغية وألاّ يفهم الأمازيغي اللغة العربية في أول احتكاك بين الشعبين خلال الفتوحات وطبيعي أن يزدري العربي اللغات الأخرى لأنّ الوحي كفاه مشقّة تعلّم تلك اللغات بل أن يستعلي الكثير من العرب آنذاك على لغات غيرهم وأن يسمّوا الفُرْس بالعجم أي أنهم كالعجماوات لان لغتهم غير مفهومة لديهم. لكن البعض أراد تبرئة العرب من إطلاق هذه التسمية وأعادها إلى الإغريق والرومان على اعتبار أنّ الاسم في أصله إغريقي لاتيني Barbaroï, Barbarus في الردّ على هؤلاء لم نجد في المصادر الإغريقية والرومانية أنّ الإغريق والرومان كانوا يسمون الأمازيغ بالبربر ففي المصادر الإغريقية يطلَق على الأمازيغ من حدود مصر إلى جزر الكناري اسم الليبيين وهو ذات الاسم الذي وجدناه في الكتابات المصرية (الهيروغليفية) أمّا الرومان فكانوا يسمّون الأمازيغ بالأفارقة وفي العهد البيزنطي شهدنا توسعا في استعمال اسم المور (Maurii, Maures) على نطاق واسع ليشمل كل الأمازيغ الذين لم يذوبوا في الحضارة الرومانية على الخصوص – وهذا الاسم الأخير (مورMaures) هو اسم لأحد شعوب الأمازيغ ومنه اشتقّ اسم موريتانيا الحالي- وهو الذي دخل به المسلمون إلى اسبانيا وبه عُرِف مسلمو الأندلس. إذن الكتّاب العرب في القرون الوسطى هم من روّج لهذا الاسم (بربر) كاسم علم على الأمازيغ ولم يكن فيه ما يدلّ على الإهانة أو الدونية ولنستمع إلى ابن خلدون وهو يصف الشعب الأمازيغي ، يقول : “…وأمّا تخَلُّق البربر بالفضائل الإنسانية، وتنافُسهم في الخلال الحميدة، وما جُبلوا عليه من الخُلُق الكريم…، من عزّ الجوار، وحماية النزيل، والوفاء بالقول والعهد، والصبر على المكاره، والثبات في الشدائد، … فلهم في ذلك آثار ينقلها الخلف عن السلف … وحسْبُك ما اكتسبوه من حميدها، واتّصفوا به من شريفها، أنْ قادتهم إلى مراقي العزّ، حتّى علت على الأيدي أيديهم… وما كان للبربر من آثار ما يشهد أخباره كلّها بأنّهم جيل عزيز على الأيّام، وأنّهم قوم مرهوب جانبهم، شديد بأسهم، كثير جمْعهم، مضاهون لأمم العالم وأجياله من العرب والفُرْس والروم”. فلا نظن أبدا أن هذا الاسم كان في معناه ومدلوله ما ينم عن منقصة أو صفة غير محمودة ولو كان الأمر كذلك ما ظهر في عنوان كتاب ابن خلدون مقترنا بهذا الوصف الذي جعل القوميون البعثيون اليوم – وقد عزّ عليهم أن يوشًّح الأمازيغ بهذا المجد – يكيلون التهم لهذا المؤرخ العملاق واصفين إياه بالشعوبي. في العصر الحديث أخذ الأوربيون الاسم من المصادر العربية وكتبوه في لغاتهم كما أشرنا إليه أعلاه (Berbers, Berbères …etc.) فأين الإشكال إذن ؟ لقد دخلت في لغة الصحافة العربية حديثا عديد المفردات الأوربية – رغم تشدّد النقاويين Puristes العرب وموقفهم المتشنج من المفردات الأجنبية- ومنها مفردة ” البربرية ” التي تعني الوحشية وهي مفردة رافقت الكثير من انكساراتنا في الصراع ضدّ الاستعمار، وكلمة بربر وبربرية Barbare et Barbarisme بهذا المدلول لا وجود لها في القاموس العربي قبل القرن العشرين وحيث أن رسم الكلمة في العربية واحد اختلط المعنى على مستعمليه من صحافيي الأبواق الإعلامية خلال المقابلة الرياضية في كرة القدم بين الجزائر ومصر فاستعملوا الكلمة بمعناها الدخيل في غير محلّه دون تبصّر أو تروّي، ولعل الكثير منهم يجهل أنّ الأمازيغ (البربر) هم جزء من المكونات الاثنية للشعب المصري ذاته ولا يزال أهل سيوة (محافظة مطروح غربي مصر) إلى اليوم يتداولون فيما بينهم بإحدى لهجات اللغة الأمازيغية (البربرية) فضلا عن ملايين الأمازيغ المستعربين منهم والمحافظين على اللغة والثقافة الأمازيغية وهم شعوب ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وبلدان أفريقية أخرى. ونختم بعبارة أحد أصدقائنا الفلسطينيين وهو يعتذر عن الاستعمال المذكور الذي في غير محلّه قائلا اللهم اجعلني بربريا إن كانت البربرية هي الدفاع بشراسة إلى حدّ الوحشية ضد الاستعمار “الإسرائيلي” وكل استعمار غاشم طبعا.
(1) الشاعر هو الحطيئة. (2) أطلق اسم البرابرة على الشعوب الجرمانية التي غزت الامبراطورية الرومانية لكن الملاحظ أن الاسم في هذه الحالة كان صفة وليس اسما اثنيا لأن كل تلك الشعوب احتفظت بأسمائها الاثنية مثل البورغوند واللومبارديين والوندال والقوط الخ لكن كل هذه الشعوب وصفت بأنها بربرية، وينبغي التذكيرأنّه في حال صغية الجمع هناك تمييز في اللغة العربية بين البربر Berbères والبرابرة Barbares فلا يصحّ لغويا أن نقول عن البربر Berbères برابرة Barbares لأنّ كلمة البربر هي صيغة جمع دالة على الأمة الأمازيغية أمّا البرابرة فهي صفة تعني متوحشين (3) يسمي “البربر” أنفسهم : إمازيغن Imazighen وهي صيغة جمع مفردها Amazigh والأرجح أنها تعني الحرّ، ولا وجود في لغتهم لاسم بربر كاسم علم عليهم. وهذا الاسم (أمازيغ) وجد في المصادر القديمة بصيغ مختلفة : Maxyes في هيرودوت وMazices في المصادر اللاتينية و (MSWS, Meshwesh) في الكتابات المصرية الهيروغليفية كما وجد في ابن خلدون الذي اعتبره اسما للجدّ الأعلى للأمازيغ. (4) للتوسع يراجًع مقالنا : في أصول بلاد البربر ؛ إشكالية الاسم الإثني واسم البلاد في الحوار الفكري دورية محكّمة صادرة عن مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية عدد ديسمبر 2007 ص ص 185-197
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 08/09/2017
مضاف من طرف : nemours13
صاحب المقال : العربي عڨون | جامعي، استاذ محاضر بجامعة سيرتا (قسنطينة)
المصدر : inumiden.com