الجزائر

تسابيح فجر العمْران أساس الحضارات



  لم يعُدْ الحديث في البلدان المتقدمة عن  علاقة زحْمة المُرور بالتخلُّف، وكبْحه للتّنْميّة حاجة الى نصْف دليل، إذ ْأضْحى جليًّا لديهم أنّ العوامل التي تتحكّم في التنميّة، ليْست رأس المال ولا الآلة، بل الإنْسان، الذي يقع عليه تحْقيق التّفاعُل بين هذين العنصريْن وعناصر ثانوية أخرى، لبلوغ تنمية مُسْتدامة. وحين نقول الإنْسان، فانّنا نعْني به ذلك الكائن الذي يعيش الزمن في حيِّز  مكاني، وفْق سلاسة ورَفاه أو عُسْر وضنْك، تُحدِّدْهما طُرق تسْيِّير واسْتغْلال الجغرافيا الزمنيّة والمكانيّة. وبعبارة أقْصر، فإنّ سَلاسة وسُيولة حركة الانسان في جغرافيّته هي التي تتحكمّ في نُموِّه وتنْميَّته، ذلك أنّ التطوُّر والنُموُ لا يتعايشان أبدا مع الفوْضى والإزْدحام. وفي بلْداننا، فإنّ فوْضى تسْيٍّير الزمن والمكان، أسُّ أُسُس التّخلُّف، لأنّ ذلك وباخْتصار سبَب الشّلل، ومنْبع الإزْعاج، والكابح لقُدُرات الطالب والباحث والعامل الذهْنيّة والجسَديّة، والمُهيِّج لأعْصاب المواطن، مع كل ما يترتّب عن ذلك من فساد للأخْلاق، وتشْجيع لمبْدأ “في ظلّ هذه الظرْف، مِنْ بعْديَ الطُّوفان”. إنّ العامل أوالطالب اللذين يتّجِهان صباحا إلى المعْمل أوالمبْحث، ليَصِل كل منهما إلى وجْهته، ولا طاقة له على العمل أو التفْكير، كما لا قدْرة له على الإسْتيعاب، فقد أنْهكت ساعات الطابور أو الطوابير الطويلة التي يقْضيها في الطُرقات جُلّ  قُدُراته. وصاحب رأس المال، أجْنبيّا كان أو وطنيّا، وإن رأى في هذا البلد فرْصة للإسْتثمار، فإنّه ولا شك يُفكِّر كثيرا قبْل الإقْدام، يرْدعُه عن ذلك مقْدار ما يرى ضَياعه في الطرقات من وقْت ربّ العمل وعُمّاله على السّواء، ولذلك لا تراه يستثمر إلاّ في إقتصاد “البازار”، أو كما يقال “شِدْ مَدْ”. والسائح الذي قد يتطلع إلى معرفة البلد وكنوزها كذلك يُوَلِّي وجْهه قِبْلة أخرى، خوف الضيَّاع في المتاهات، وغيْرهم كثير.   وبعْد ذلك كلّه، فهلْ يُعْقل أنْ يكون حلّ أزْمة الطرقات مُعْضلة في بلدنا الى هذا الحدّ، وهلْ يتوقّف حلَّها عند صبّ ملايِّين الأطْنان من الزّفْت، أمْ أنّ ذلك لا يعْدو أنْ يكون حلاًّ من الحُلول الرخيصة فكْريًّا، والتي يلْجأ اليها في العادة كلُّ مُتْرفٍ، مُعطَّلة خلاياه الدِماغيّة. لا يحْتاج  الُمتنقِّل الى كثير إجْتهاد ليُلاحظ أنّ فترة العُطل الدراسية هي الفترة الأكْثر سلاسة في حركة المرور، وإذْ ذاك،  يتساءل المرْء عن سبب تكْديس الجامعات والمعاهد في قلْب العاصمة، سواءً في ذلك الموروثة منها عن حقب سابقة وأسْبق، أو المُنْشأ منها حديثا في بُقَع كان أجْدى أنْ تُتْرك مُتنفَّسًا للمدينة. وإلى جانب خطأ تكْديس الجامعات، نجد عشرات ما يُشْبِه المُسْتشٍفيات قابعة  في مرائب موروثة عن جيش الاستعمار، تتربَّع على عشرات الهكتارات في قلب العاصمة، علْما أنّ  ثمَن الأرْضيّة يَفُوق مئات المرّات ثمن المباني المقامة عليها، والتي تستقْبل آلاف المرْضى والزوّار يوميّا، وليس هذا مجال الحديث عن عشرات المباني المهترئة، تشوِّه واجِهة البحْر، لتُعشِّش فيها الغِرْبان منذ عهود، ولا مُكْترث، حتى يُخيَّل إليك أنّها، ربّما، فى وهْد من وِهاد الصحاري الُموٍغلة. إنّ غمْر المُدن الكبْرى، وزيادة خنْقها بمئات الآلاف من الرُوَّاد الُمكْرهين،    ليكاد يدْفع المرء عند مقارنة هذا البلد ببلدان أقلّ مساحة، إلى مُراجعة معلوماته الجغرافية، ليتأكدّ أنّ هذا البلد يتربّع فعلا، على مساحة تَفوق الملْيونيْن كيلومتْر مربّع. إنّه ما لم يتمّ إسْتغْلال المال المُتواجد بالخزينة في توْفيرشُروط الرُّقي بالانسان تعْليمًاوتعلُّمًا وشُغْلاً وصحةً عقْليّة ونفْسيّة وبَدَنيّة، فإنّ المال هذا لا يعْدو أنْ يكون أوْراق وحِزَم مُبعْثرة هنا وهناك، في صناديق وبنوك لِأٌمَم تعْرف كيْف تسْتثْمر المال للنَّفْع العام. ماذا يُضير لو خُصِّص جزء من هذا المال، لإقامة مدينة اسْتشْفائيّة وأخْرى جامعيّة علْميّة، على أنْ تُجمَّع في المدينة الثانيّة كليّات جزائريّة تتَجاوَر وفْق تقارُب تخصُّصاتها وتفاعُلاتها، فيجد فيها الطالب مرْقده والأُستاذ والباحث منْزله المرقد، ويجد فيها جميع القاطنين ما يحتاجونه من مرافق تغْنيهم عن هدْر الوقت الثمين في الحافلات وعلى قارعة الطرقات، أمْ أنّ”ليْس للجزائري في الحظَّ نَصيب” كما يقول المثل. نعْلم أنّ بعض الدكْتاتوريات في العالم تخْشى من تجْميع فئة معيَّنة، لاسيَّما الطلبة، في مكان واحد، غير أنّ ذلك لم يَعُدْ له مبرر، ذلك أنّ التَّجمُّع الآن يتمّ أكْثر وبفعاليّة أشدّ، عبْر مواقع اللِّقاء العنْكبوتي. مهما يكن، فإنّ كلّ مُحاولات التنْميّة ستَظلّ نَغَم  نَشاز الإيقاع، ما لم يُهٍتم بالعمْران، لأنّ التجارب العالمية الحديثة والقديمة أثْبتت أنّ العمران أساس الحضارات.   بقلم: خرشي النوي    Kharchinoe@gmail.com    


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)