من سورة الفجر
كانت تراودني دائمًا فكرة استمرار العلاقة بين الأحياء والأموات، هل هناك لحظات لقاء فيها يلتقون، ثم هل تظل العلاقة قائمة بين الأحياء والأموات قائمة؟
إن انتمائي للإسلام دينًا وللقرآن والسنة مرجعًا يجعلني أومن بأن الأرواح تلتقي حتى وإن تباينت الأجساد، وتأتلف أحيانًا وتختلف أحيانًا كما نص على ذلك حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم -كما جاء في الصحيحين-: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ). فهي من جُند الله التي تتألف عندما يجمع بينهما الإيمان وتتباعد وتختلف عندما يغيب عنها الإيمان؛ فالكافر لا تأتلف روحه مع المؤمن لأن هناك ما يفرق بينهما وهو الكفر، ولأن الذي يجمع بينهما وهو الإيمان غائب هنا، فالروح قد هبطت من السماء فاستقرت في الجسد.
بقول ابن سيناء في هذا الشأن:
هبطت إليك من المحلّ الأرفع *** ورقاء ذات تعزّز وتمنّع
محجوبة عن كلّ مقلة عارف *** وهي التي سفرت ولم تتبرقع
ثم أن الروح تصعد عندما يأذن الله لها بذلك: قال الله تعالى: ﴿يٰأَيَّتُهَا 0لنَّفْسُ 0لْمُطْمَئِنَّةُ 0رْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَ0دْخُلِي فِي عِبَادِي وَ0دْخُلِي جَنَّتِي﴾ سورة الفجر الآيات 27- 30.
يأتيها الأمر من الله فتستجيب وتعود إليه راضية بعودتها إليه، وتترك المادة تتحلل في المادة، وبإذن من الله تعود للتواصل مع الأحياء لتهيئ اللقاء بين الأحياء والأموات، فالحي المؤمن عندما يزور قبر محبّه أو قريبه ويتقرب إليه بما يُهدى من ثواب في شكل صدقة أو قراءة قرآن أو دعاء إليه، فإن الروح تكون قريبة من صاحبها الميت فتعلن له ذلك. وفي ذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام). أورد هذا الحديث ابن القيم (ت751ه) في كتابه الروح، وقد ورد في الصحيحين عندما نادى النبي صلى الله عليه وسلم قتلى كفار قريش ببدر: (فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا، قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقيمة وحسرة وندما). وثبت في الصحيحين أن الميت يسمع قرع نعال المشيّعين إذا انصرفوا عنه.
فما الذي يجعل الصلة بين الأحياء والأموات باقية؟ ... إنها الصلة الروحية التي أودعها الله في عباده. إن لدينا في حياتنا وعلاقاتنا الإنسانية ما يزيدنا يقينا، وإن كنا مستيقنين، وهي هذه الصلة بين بني الإنسان، تبدو هذه الصلة في "توارد الخواطر"؛ ما الذي يجعلني أنا أندفع في نفس اللحظة التي يندفع فيها من يقابلني بأن تتصادف خواطرنا فأقول كلمة تجول في خاطري ويفوه بها هو في نفس الوقت؟ .. أي اتفاق هذا الذي جعل الشخص المقابل يورد نفس ما أردت أن أقوله أنا، وهو ما يسمى ب"توارد الخواطر" la télépathie من أين أتى هذا التوارد؟ .. إنه من أعماق الإنسان الذي يشترك مع أخيه الإنسان في التفكير والاهتمامات والأغراض ثم هناك أمر لابد من ذكره هنا، وهو حديث الإشارة أو ما تومئ به الملامح والعينان على الخصوص، تعجبني عبارة قالها أحد فقهاء الصحابة السبعة (مع العلم أن هناك فقهاء التابعين السبعة، أو ما يسمونهم بالفقهاء السبعة)، وهو الإمام علي رضي الله عنه فقد قال:
وَالْعَيْنُ تَعْلَمُ فِي عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا *** مَنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا
قالها قبل أن يأتي العالم النفساني الإنجليزي توني بوزان بنظريته المشهورة في التنمية البشرية (الشخصية من خلال الملامح والشخصية من خلال الخط).
ثم هناك الرؤيا المنامية التي يتراءى فيها حجم ما للمرء من صلة بينه وبين غيره، إنها بعد روحي يجمع الناس بعضهم ببعض، فهناك من يرى في منامه أحد أقربائه أو معارفه، وقد تكون هذه الرؤيا من قبل حتى لمن مات منذ عشرات السنين، ويرى نفسه يجالسه ويتحدث له، وقد يسافر معه، وقد يعقد معه مشاريع أو يحجان معا، ونحو ذلك ثم يتلاشى هذا كله عند اليقظة. إنها الأرواح التي تفعل العجب...
وهناك أشخاص، أنا أعرف بعضهم، يرى المنام ليلا فيتحقق كلّه أو جزء منه في اليقظة، وقد يتباشر الأحياء بالرؤيا، وكثيرا ما تتحقق هذه الرؤيا، لقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "ذهبت النبوة وبقيت المبشّرات، قيل يا رسول الله، وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له ". وفي حديث آخر: " رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"...وقد سئل فضيلة الشيخ سيدي عطية مسعودي رحمه الله من لدن أحد الأزهريين الذين كانوا مقيمين هنا بالجزائر عن معنى الحديث، فقال له الشيخ رحمه الله: أنا لم أطلع على الحكمة من تحديد هذا العدد في كتب الحديث التي اطلعت عليها ولكن مجرد استنتاج قد يكون الجواب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يتعبد في غار حراء كان يأتيه الإرهاص الذي يسبق النبوة، وهو رؤيا صالحة قريبة من الوحي، عندما نقارن فترة الإرهاص المقدرة بستة شهور بمجموع الدعوة النبوية التي دامت ثلاثا وعشرين سنة فإن فترة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء تمثل بالنسبة لمجموع الدعوة النبوية ب 1/46؛ أي الجزء السادس والأربعين من مجموع الدعوة، فقام الشيخ الأزهري وأثنى على الشيخ وشكره.
أليست هذه الدلائل كلها كافية لأن توضح لنا مدى ما للروح من علاقة بين بني الإنسان، ولعلني لم أتطرق إلى الجانب النفساني الذي أصبح علما مستقلا بذاته، وما للتنويم الإيحائي، أو المغناطيسي من تأثيرات على النفس البشرية. لأن التساؤلات قد تتسع ومساحتها قد تزيد وموضوعها قد يتشعب ويطول، ورحم الله الشاعر الذي قال:
لكن من التطويل كلت الهمم *** فصار فيه الاختصار ملتزم
اللهم اجعل أرواحنا تأتلف ولا تختلف وتتعارف وتتقارب ولا تتناكر أو تتباعد لتكون أكثر قربا منك وصلة بك واعتمادا عليك.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 29/05/2020
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : يحيى مسعودي
المصدر : www.djelfa.info