إنه الدكتو، باللفظة ورنينها، بوسامة السينما واقتدار اللغة ودربة الدبلوماسية، ريعانات متشابهة متشاكلة مع تكوين أهل زمان من النوابغ الكبار، فهم يجمعون من الموسوعية ويتجمعون حولها، طب وأدب، شعر وبلاغة، مقالة وإعلام، سفرات وتثاقفات، نسب وعائلة ومحتد، دين وقداسة ومعصومية، ثورة ومناضلة وسؤدد، عوالم وقوميات..
إنه عالم الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، نداء الشرق الذي راح يتعشقه ويبلي فيه بلاءه منذ السطور الأولى لمذكرات حافلة، عاجة، لهما الزخم والتراكمات، حب العلم ومحبة الأنوار منذ الصغر، وحب البيت الشرقي ما استطاع إليه سبيلا، هذا الدكتور العارف، المثقف، الذي تربى بين البرنوسين مستلاّ قلم شيخه ووالده محمد البشير الإبراهيمي..
إن الجزائريين مفتونون بالبقاع المقدسة، مستهامون بعبق الشرق، يتعطشون إلى الأزهر ودمشق، ويجدون في الصلات تلك التي ترك آثارها الأمير عبد القادر موئلا وملاذا لثقافة جسورة أصيلة أرادت الفلول الإستعمارية محوها أو تزييفها، وسط هكذا مناخ منشد إلى قدامة الأولين وأصالتهم وآخر طاعن في أطماعه وجبروته ينشأ طالب الإبراهيمي، من أولاد ابراهيم، من اسم “طالب" المضاف، معلم المدرسة، وحيث كانت الإدارة الاستعمارية تصف على كيفها، المسميات بلا حساب، والألقاب بلا معانٍ، إن هي أصابت أصابت، وإن هي أخطأت أخطأت، لمكان الطفولة السطايفي نثر قليل وشيك بينما هي تلمسان المرتحل والمستقر، يوم كلف الشيخ البشير الإبراهيمي بمهام الجمعية وأنشطتها ما بين 1933 إلى 1945م..
البيت والحديقة كانا صنوان في التشكيل الهندسي لكنها بتعبير الإبراهيمي على ضباب تلك الذكريات كانت، خرير ماء النافورة، والخضرة وأشجار الدلب والحور الباسقة وصوت القرآن عشيات المولد النبوي، خفوت في النبرة التلمسانية وحنين سطايفي سرعان ما كان يبسط ثغاءه وزئيره على لكنتنا يقول الطالب، أو طالب، أو الدكتور..
كانت ديناميكية سيد البلاغة والبيان الشيخ البشير الإبراهيمي، نفعل في طالب مفاعيل الأسر والجاذبية كما الخوف والعطف، فالشيخ الوالد ناشط ألمعي، ملهب خيال الأتباع واللاّهي بفنون الأدب ما عسر منها وما سهل، ينتقل إلى ندرومة، مغنية، سيدي بلعباس، وهران، سيق وباريغو، والشيخ لا يمل ولا يتعب ولا يعتب ولا يعاتب، حقق حلمه، فهنا في تلمسان صار يوجد “المجمّع التربوي" المسمى بدار الحديث من بعد ملاحقات الإدارة الفرنسية التي قلمت أظافر العمل المسجدي، بيد أن تلمسان في أوائل الثلاثينيات استنفرت قواها بمعية الشيخ، وأرهصت بطوالع نهضة ثقافة وكتاب ومحاضر، كان الجلساء يأتون من كل صوب نحو “نادي الشبيبة" أو “نادي السعادة" ليشربوا الشاي ويقرأوا باللغتين، ثم لتنشأ مطبعة ابن خلدون وتزدهر الحركة الكشفية، ويلهج المسرح بأشعار أحمد شوقي، فضلا عن توارى الصراع الأهلي والمشاحنات ما بين الحضريين والكراغلة وبروز وطنيي حزب الشعب..
قلنا إن طالبا يغترف مذكراته من مخزونات طفولية دسمة موصومة بالغزارة وهي من قلة مذكرات لها كل هذا البهاء واللمع، إرث ثقافي حقيقي نوعي ومتنوع، وإنها تلمسان، الرياض والفسحات، لاله ستّي وعين الحوت، عين فزة وآثار المنصورة، مصالي وحوارييه، الذكرى الكروية في المنافسة ما بين الشبيبة الرياضية الإعلامية والإتحاد الفرنسي العربي، الموسيقى الأندلسية وفعالياتها وحيث أن اسم الشيخ العربي ابن صاري يحجب اسم الشيخة طيطما..
أدهشتني العاصمة، أدهشني بحرها والسماء، زرقته، مجاهله وأهواله، وفي فندق الديوان مع الشيخ قبالة نادي الترقي كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يطرق باب غرفة والدي كل صباح قائلا له “سأدعك تكتب في هدوء، وآخذ أحمد معي"، “كنت فخورا أن يأخذني هذا الرجل من يدي والناس يحيونه، إما على بعد بتحية احترام، وإما بمصافحة حارة وإما بتقبيله على الرأس.." لم يكن الحوار بيني وبين علاّمتين فذّين ينتميان إلى الديار الجزائرية، بل هما واحد في الطريقة والمسلك، في التعاون والشجاعة، في الفكر والأدب، كانت نادرة تلك ولطيفة اللطائف أن يمجد ابن باديس خصال التعلم باللغة الفرنسية شاهرا الحجة والدليل في وجه والدي ضاربا المثل بالإفادات التي يقدمها الشيخ محمد الأمين العمودي البارع في اللغتين، على أن الشيخ البشير كان على حيطة ومخافة من الوقوع في الافتراس اللغوي الفرنسي المحيل إلى الاغتراب والمسخ..
مسار الوالد الكفاحي وألقه المهيب ران على قلب طالب الطفل ونال منه العاطفة والشوق، فطالب لا ينفك في سيرته الإبراهيمية هذه تذكيرنا بالسياقات العائلية الهامة التي تربط النشأة بالشيخ والطفولة بالتعليم الديني العقلاني، الكفاح من أجل الكرامة بالمعاداة للأطروحة الاستعمارية الشمولية، منها رفض الوظيفة الرسمية، الترحيل إلى أفلو، تلك الأفلو الظاهرة الجغرافية الفريدة في بردها الشديد وثلجها المتكاثف كما صيفها الحارق الجاف، ثلاث سنوات عجاف حسب الدكتور في منطقة بها الجوع والخصاصة مرمية أقصى، أقصى الجنوب الوهراني..
عدنا إلى يوميات دار الحديث، اليوميات التلمسانية، الوالد يستمر عطاءً وخدمة، والمدرسة تقدم الناس كي يستمروا في تعليم مثالي لكنه شاق، خاصة في المدارس الفرنسية، كان من تلاميذ الدار المتفوقين علمين من أعلام الجزائر المستقلة هما الطبيب الجراح التيجاني هدام وعالم الاجتماع عبد المجيد مزيان، بل هما وأمثالهما راحوا يشيدون بفصاحة الشيخ وغرامه باللغة والفقه، سعة اطلاعه التي أنست الناس خطب الجمعة الكسلى ورتابة الأئمة النائمين في خدر الرغيف والحمص..
خطت الجمعية خطوات رائدة في المكسب والرمز وسيتبوأ الإبراهيمي القيادة والتدبير في نادي الترقي، ويعيش المراهق طالب صدى الوطنية الصاعدة ونقاشاتها وها هو طالب في ثانوية “بيجو"، وهي ثانوية الأمير عبدالقادر حاليا، ساعات طوال يقضيها المراهق المثقف في بحوث حول القرآن وألف ليلة وليلة وجان جاك روسو..
في ذلك البيت الموريسكي في 12 شارع بومبي، في قلب العاصمة العتيقة كانت تقع الحوادث الفكرية والحواديث، سياسة وجدل، المناظرات وآدابها، التهذيب المدني ورقة الدين، من تلك الرقة والتمدن بني الشيخ البشير الإبراهيمي مجده الذي لم يزل ولا يزال، بيت الضيافة العامر، هناك تعرف طالب المراهق الثانوي الذي يبرع في كل شيء عدا نظم الشعر ومراودة العروض، يتعرف على حسين لحول، وحسين عسلة، وأحمد بودة، وفرحات عباس، وأحمد فرنسيس، وأحمد بومنجل، وعمار أوزقان..
«ذات يوم التقيت عباس فرحات بأحد الأروقة، قال لي بنبرة خطابية، إذا أردت أن تعرف حقيقة الاستعمار الفرنسي، عليك بقراءة رسائل سانت أرنو"..
كان الفضول يأكل قلبي - كما هي بادية مشاعر المراهق آنذاك في مذكرته - إذ يمكث الدكتور محمد الأمين دباغين في بيت والدي مطيلان التباحث في نزعة مصالي التسلطية، وفي إمكانات الوحدة بين جمعية العلماء المسلمين وحركة انتصار الحريات الديمقراطية..
يقدم الدكتور البيت الإبراهيمي كأنه المزار والمحج، مكان الهناء والمحبة والمحجة البيضاء والمعرفة، الأجانب من الصحافة وأهل القلم، عاشقو الكفاح والتحرر، الخارجون من برنوس ماركس ومعطف النضال الطبقي، الباكستاني انعام الله خان وهو يتخابر مع والدي في الشأن الأممي الإسلامي، روجيه غارودي وعمار أوزقان والوصية الفلسفية للأول، وهاهو الشيخ يسرق انتباه المنظر والمفكر بالعبارة اللاّفتة المتواترة دائما عنه “أسوأ عيب في أولئك الذين تبنوا الثقافة الغربية في جهلهم المطبق بحقائق الإسلام، وأسوأ عيب في من يتبنون الثقافة الإسلامية هو جهلهم التام بمشاكل ومتطلبات عصرنا"..
لقد وصف روجي غارودي والدي بالعالم التقدمي وكان ذلك أول الجهر بعشق الإسلام والوله بدراسته ثم اعتناقه حسب الدكتور، - فيما بين (1945-1949) عشت الترحال اليومي المشغوف بالترولي والتّرام من القبة إلى وسط المدينة ذهابا وجيئة، كنت زبونا وفيا في سوق الكتب القديمة في ساحة لالير، أشتري غوته، وهيغو، بلزاك، تولستوي وفلوبير..
ولدت والمكتبة، ترعرعت كهاتين، الخزائن الأربع في تلمسان وهي محملة بالتراث والمعرفة والكنز الداخلي للإنسان بوصفه حيوان قاري، كنت أذهب لمباراة كرة القدم ومناصرة المولودية، نشاهد أفلاما مصرية تافهة ويجذبنا فيلم “فجر الإسلام" كما زيارة فرقة يوسف وهبي المسرحية وإلهاماتها للحركة الوطنية الثقافية آنذاك..
هذا الوسط الراقي، بيث الثقافة يتضح كونه الخيط السميك، الطالب في شخصية الدكتور، الكاتب، الدبلوماسي، أحمد طالب الابراهيمي..
السيرة الإبراهيمية هكذا خيوطها وأسرارها ورشائج وقائعها بالأسماء والعائلات، بالداخل والمقاومات، بالعائلة والشيخ، الشيخ الذي يجول بالابن شارحا له، حكايا المدن وتواريخها، الأسماء ومكنوناتها، منحدر بيجو، سوق كلوزيل، وثكنة يليس، شارع كافينياك، حكاية ورواية طويلتا الشرح لطفل يراهق على عرفان والده، فقهه وبحره المحيط في اللغة...
a_maouchi@live. Com
عبد الوهاب معوشي
![if gt IE 6]
![endif]
Tweet
المفضلة
إرسال إلى صديق
المشاهدات: 1
إقرأ أيضا:
* افتتاح: تحية إلى “كمال قرور"
* عن الشعر وعن قضاياه..
* شاعر العبث والأحزان
* القاص والروائي خالد ساحلي ل “الأثر": النقاد في الجزائر مهمتهم تبييض أسماء وتسويد غيرها
* سلطان الوهم
* ملل القارئ أو عَقْدُ القراءة..
التعليقات (0)
إظهار/إخفاء التعليقات
إظهار/إخفاء صندوق مربع التعليقات
أضف تعليق
الإسم
البريد الإلكتروني
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 03/12/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : التعليق تصغير تكبير
المصدر : www.djazairnews.info