تواصل الصحف الفرنسية نشر تعاليقها على الخطاب الذي أذاعه السيد فرحات عباس من تونس والرباط على مسامع الأوروبيين في الجزائر، ولكنها في الوقت نفسه توجه أنظارها إلى الخطاب الثاني الذي أعلن أن السيد عباس سيلقيه في أوائل الأسبوع القادم، وإليكم ماكتبته صحيفة " لوموند" في هذا الصدد عن مراسلها في عاصمة الجزائر أولا ثم عن إدارة تحريرها بباري ثانيا.
ماهي اللغة التي كان من الممكن للسيد فرحات عباس أن يستعملها لاستجلاب عطف الأوروبيين؟ الواقع أن الوقت لم يحن بعد لفتح النقاش بين الحكومة الجزائرية التي يتحدث باسمها فرحات عباس وبين أوروبيي العاصمة الذين لم ينسوا بعد مصير الحركة التمردية التي شنها زعماؤها. أضف إلى ذلك أن الأوروبيين يتحرزون أكبر تحرز من تبادل الحديث مع الشيطان لأنه من المعلوم أن الشيطان هو الذي ينتصر دائما في هذه الحالات.
هذا ومن الجدير بالذكر أن أول تعليق صدر في عاصمة الجزائر هو تعليق إذاعة الجزائر بالفرنسية حيث قالت: (تصريح فارغ... عملية دعائية فاشلة...)
ولكن هناك أيضا بعض الانتقادات الصريحة، فقد قيل مثلا: لو أراد فرحات عباس أن يفعل (شيئا) من أجل الأوروبيين الجزائريين فما كان عليه إلا أن ينهي الإرهاب أو أن يعلن مثلا عن هدنة مؤقتة للاعتداءات الإرهابية ذلك أنه من الغلط الفادح أن يصرح عباس -بعد يومين فقط من مقتل عائلة بروفوست- أن الجمهورية الجزائرية (ستحترم جميع القيم).
ويستخلص الأوروبيون من هذا أن رئيس (الحكومة الجزائرية) إذا لم يفعل شيئا ملموسا فذلك علامة على أنه لايملك الوسائل الضرورية لفرض احترام الأمر بوقف الاعتداءات الارهابية من طرف الفدائيين.
هذا ويظهر أن الأوروبيين يعتقدون أن فرحات عباس يسخر منهم عندما يؤكد لهم استعداده لاعتبارهم جزائريين صميميين بينما هم ثائرون على باريس لأنها أظهرت بعض التردد في الدفاع عن فرنسا الجزائر. وإلى جانب ذلك يشتمل النداء على جمل وعبارات تبرهن في نظر المدنيين والعسكريين على أن الجبهة لم تتخل عن منهجها السياسي المعتاد.
ومن الواضح أن ردود الفعل هذه والانتقادات الموجهة لنداء فرحات عباس تدل على أن أوروبيي الجزائر لم يتوصلوا إلى التغلب على الذعر المتزايد من المستقبل. فقد سمعت من عدة شخصيات علم أنها تناضل من أجل الإدماج -سمعت منها مثل هذه العبارات إثر فشل الحركة التمردية: (أنه من المؤكد أن الجزائر الفرنسية كما نتخيلها نحن قد ماتت...) وهناك من يقول أمام المستقبل المجهول الذي ينتظر الأوروبيين: (فرحات عباس نعرفه ونعرف أنه معتدل... ولكن كريم بلقاسم وبوصوف وفلان وفلان... لايفكرون إلا في تقتيلنا. إننا نعتقد أن من بين المليون فرنسي لن يبق بالجزائر أكثر من 200 ألف).
وقال آخرون: ( تصور أن الجمهورية الجزائرية تعلن في الجزائر فلن يمض على ذلك ستة أشهر حتى يغتنم المسلمون أول فرصة لتقتيلنا بمناسبة الاحتفال بذكرى ميلاد جميلة بوحيرد مثلا).
وهكذا فإن مايسيطر على الأوروبيين في الظروف الراهنة هو الخوف، الخوف الشديد من الاضطرار في النهاية الى الاختيار بين (الحقيبة والقبر) ومن الواضح أن فرحات عباس لم يتمكن من خلع هذا الخوف منهم كما أنه لم يتوصل إلى اقتلاع الاعتقاد الذي تقوم عليه أفكار الرجال والنساء بأن كل تطور سياسي بالجزائر يجرهم إلى الخراب.
ولهذا فإن النتائج الإيجابية لتصريح فرحات عباس لم تظهر بعد ولن تظهر في أجل قريب. هذا ولا ريب أن بعض العبارات التي وردت في التصريح من شأنها أن تنفذ إلى نفوس الأوروبيين وأن تخلق فيهم نوعا من الاطمئنان حتى ولو لم يشعروا به مباشرة.
وأبرز هذه العبارات قوله: (الجزائر تراث للجميع... يمكننا أن نعيش معا... في الجمهورية الجزائرية سيتوفر العمل للجميع...).
وأخيرا ماكاد الأوروبيون يطلعون على تصريح السيد فرحات عباس حتى أعلن في تونس أن تصريحا سياسيا جديدا ينتظر وقوعه بعد أيام قليلة. وهذا التصريح هو الذي يترقبه الأوروبيون الآن بنفس التخوف من المستقبل المجهول.
وهذا نص الفصل الذي كتبه أحد المحررين في باريس:
سيفتح السيد فرحات بعد أيام قليلة الدفة الثانية من بابه. لهذا فإنه يحسن بنا أن نمسك عن إصدار حكم مسبق على تصريح لايكون ذا قيمة كاملة إلا إذا اشتمل على بعض التفاصيل المدققة.
ذلك أن الخطاب السابق بالرغم من اعتدال لهجته ليس فيه مايمكن أن يخفف من مخاوف الأوروبيين خاصة وزن كل ماجاء فيه ليس إلا مجرد تعهدات عاطفية وشفاهية لاتأثير لها على الواقع الراهن. ومع ذلك فرن نداء فرحات عباس أكد من جديد قبول مبدأ تقرير المصير كما اعترف بالمصير المشترك الذي يضم جميع سكان الجزائر.
والجدير بالذكز أن أصواتا فرنسية أيضا ارتفعت من قبل ذلك في باريس لتأكيد وحدة المصير لجميع الذين خلقوا ونشأوا في البلاد الجزائرية وللتنديد بمواقف المتطرفين. وفي هذا دليل على أن كلا الطرفين شعر بالواقع الجزائري وأن كليهما يسعى لتطمين أوروبيي الجزائر وإقناعهم بأنه من الأفضل أن يتعايش المسلمون والأوروبييون في الوطن الوحيد الذي يضمهم الآن.
ولكن خطاب السيد عباس يبرز من ناحية أخرى تصميم الجزائريين على المطالبة بالاستقلال بحيث لم يترك مجالا للمفاوضات التي يجب أن تفتح في يوم من الأيام إذا أريد إنهاء هذه الحرب. فالسيد عباس يؤكد أن (جمهورية جزائرية مستقلة) هي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يحقق المساواة بين جميع المواطنين كما أنه يستشهد بالتاريخ لتبرير الحرب التي يقوم بها شعبه ضد شعب يسيطر عليه يتعهد بأن عبيد اليوم لن يتنكروا بعد تحريرهم لحرية أسيادهم الذين سيكونون مواطنين مثلهم غدا. كما أن السيد عباس لم يشر أدنى اشارة لمسألة (التقسيم) أو لإقامة نظام فيديرالي يضمن مصالح مختلف المجموعات البشرية وعوائدها ومناهج حياتها، أو للروابط التي يمكن أن توجد بين فرنسا وبعض أهالي الجزائر.
وهكذا فإن خطاب السيد عباس ليس إلا خطابا يهدف إلى تهيئة المسامع للخطاب الثاني وفي الوقت الذي تجرى فيه الحكومة الفرنسية تنظيما في صفوف الأوروبيين. فهو لايدل على أن هناك تحولا في سياسة الجبهة ولكنه مع ذلك يترك الباب مفتوحا لمبادرات إنشائية تخرجنا من عبث هذه الحرب. ولكن هل من الممكن أن تتخذ هذه المبادرات وتنجح مادام لم يتم الاعراب عنها بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط بصورة جلية تستوجب من الطرفين مراعاة مشاعد المستمعين.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 08/07/2012
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : الفجر 2012.07.07
المصدر : الفجر 2012.07.07