الجزائر

بين الشيخ والجندي !



التقيت قبل يومين، بشاب في بداية العشرينيات من عمره، كان شاحب الوجه قليلا، يبدو عليه أثر السفر والتعب، يقول أنه كان في مهمة عسكرية بأقصى الجنوب، تبادلنا أطراف الحديث ورغم شدة تعبه إلا أنه كان يقظا، متفتح الذهن، حدثني عن أمن وإستقرار البلاد، وعن مهمته الجديدة، كان جنديا في صفوف الجيش الوطني، صادقا في كل كلمة كان يقولها، حاملا لمهمة نبيلة ليست ككل المهام، وفي غمرة تلك الدردشة التي جمعتني به، قفزت إلى ذهني كلمات (الشيخ المبجل) الذي أحدث ضجة في البلاد بسبب فتاويه التافهة !.
لا شيء يقيس معدن الرجال سوى التجربة، وإختبار الذات أمام مكابد الحياة الحقيقية والواقعية، فذلك الفتى رغم صغره سنه إلا أنه أبدى دراية واسعة وحقيقية بمهمته كجندي، كان يمثل في تراب هذا الوطن ذلك الحجر الصغير، الذي يمتلك مفهوما للوطن لا يفقهه حتى أشخاص في عمر الشيخوخة أو قابعين تحت عباءات المشيخة !.
فرق كبير جدا أن تجلس وراء مكتبك الفخم مطليا بكل روائح المسك والعطور، وتشير بقلمك الأحمر مدعيا الإجابة على أسئلة الناس في الحياة وتحشر أنفك في تحريم وتحليل كل شيء حتى الزلابية ! محاطا بهالة من الزيف والتبجيل والتقديس، وبين ذلك الجندي البسيط الذي كرس حياته، يحرس هذا الوطن في الحدود وتخوم الجبال والوديان وفي كل الظروف القاسية وهو يرتعد من البرد أو غير مطيق لحرارة الصحراء القاسية، يحمي ظهرك وظهر الجزائريين من الأعداء !
قد يقول البعض أن هناك فرقا كبيرا بين مهمة الشيخ و الجندي، نعم فعلا، هناك فرق شاسع، فالأول يحمل في ذهنه مفاهيم يوزعها إنطلاقا من أيديولوجيته المذهبية الخاطئة باسم الدين وضد الوطن، أما الثاني فمهمته تجسيدية لمفاهيم عميقة لهذا الدين السمح وهي الذود عن الوطن وحماية أهله من أي مكروه !.

قد تزيد أيضا، حدة المواربين ويذهبون بعيدا في أسئلتهم، ويقولون أن مهمة الجندي (خالص عليها)، نعم إنه يتقاضى راتبا لا يساوي عشر ما يتقاضه ذلك الشيخ المبجل في عليائه، إلا أنه فضل ان (يأكل خبزة حلايلية) ويقدم حياته في سبيل الوطن، رغم أنه كان باستطاعته أن يكون لصا محترفا مثلما هو منتشر بالمجتمع، أو بائعا مخدرات ومهلوسات تدر عليه الملايين مثلما نقرؤه يوميا في الصحف ومختلف وسائل الإعلام، أوقد يمتلك قليلا من نباهة تزين الحديث، لكي يكون شيخا جليلا أيضا يبيع الكلام ويوزع صكوك الغفران على الناس مع فائق الاحترام والتبجيل !!

هناك فرق شاسع أيها (الشيخ الجليل) بين أن تعود إلى بيتك الفخم في المساء، وتحظى بحضن العائلة مرتاحا بعد يوم شاق من الفتاوى والإشارة بالقلم الأحمر، بينما يقبع الرجال الحقيقيون بين فوهة الزناد والرصاص يحرسون حدود هذا الوطن في الليالي الحالكات التي تتمتع فيها أنت بنوم هنيئ وعميق وربما بشخير زائد عن اللزوم !.
وفي الوقت الذي تعتصر فيه الأمهات خوفا من أي مكروه يصيب أبنائهن مترقبات مهاتفة تطفي فيهن نيران الشوق والخوف!، كنت أنت تترقب ترقية مذهبية قادمة من هناك لتتزعم تيار الفتنة، وبعد تمكنك من هذا بأيام فقط ألقيت بسمومك الطائفية ضد أبناء الوطن الذين يحمونك من كل مكروه !!.

لا أعتقد أنك تملك مفهوما للوطن وللإسلام أكثر من تلك الأم، التي سبلت ابنها لكي يحرس بحياته هذا الوطن، وقلبها يعتصر ليلا ونهارا من الخوف عليه..و لا أعتقد أنك ستسمح بابنك بالتفكير في كهذا مهمة حقيقية للذود عن الجزائريين، في الوقت الذي تكتفي فيه أنت وغيرك بإمتلاك لمفاتيح الجنة وإخراج الناس وإدخالهم من والى الدين.

أيها (الشيخ الجليل) ما يعرفه العام والخاص أن الجنة تحت أقدام الأمهات بنص حديث صريح ولم يقرؤوا يوما أية قرآنية أو حديثا ذكرت الجنة بأنها في يد أشخاص أمثالك !.. كن على يقين أن العلم الذي تحمله وتدعيه والفتاوى التي تطلقها هنا وهناك لا تساوي شيئا أمام دمعة أم فقدت فلذة كبدها فداء لهذا الوطن .
لما التقى يوما العالم الرباني السوري محمد رمضان سعيد البوطي، مفكرا جزائريا،أعتقد أنه مولود قاسم نايت بلقاسم إن لم تخني الذاكرة، في فترة الثمانينات لما كان مشرفا على ملتقيات الفكر الإسلامي العالمية، قال له إن إسلامكم في الجزائر صافي المنبع، لا تلوثوه بشوائب المشرق الطائفية ! .. الرجل الرباني الراحل كان يعرف ما يحدث في تلك البقعة من العالم، لكن ما لم يكن يتوقعه البوطي الذي فهم بعمق تعاليم الدين الاسلامي السامي والإنساني وفهم أيضا هذه الشوائب الملتصقة به ، أنه سيقتل من قبل بعض المتشددين بفتوى (شيخ جليل) أيضا أحل دمه على المباشر عبر قناة تلفزيونية.. وما كان لا يعرفه أيضا الشيخ الرباني أنه وبعد سنوات طويلة من نصيحته للمفكر الجزائري، سيأتي يوم على هذه البلاد التي أحبها من قلبه، ليرزح من تحت عباءتها (مشايخ) يخرجون كل الجزائريين من (الملة) !
بعدما أكملت الدردشة مع ذلك الفتى القادم من الجنوب إلى العاصمة، ليعود قريبا لمهمته النبيلة مع رفاقه لحراسة الحدود وحماية الجزائريين، إتجهنا لأداء صلاة الظهر بعد سماعنا للأذان، وبينما كنا كذلك، قفزة مرة أخرى إلى ذهني فتوى ذلك (الشيخ) القابع وراء مكتبه الفاخر، وتساءلت هل صلاة ذلك الجندي مقبولة وهو في طريقه للعودة إلى الثكنة للدفاع عن بلاده؟ .! ..أفتنا أيها الشيخ !!


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)