الجزائر

بن طوبال: عبد الناصر ربما نصح المتمردين بالانقلاب على الحكومة المؤقتة كريم بلقاسم يتهم القاهرة بإثارة الفتنة داخل الثورة



الحلقة الثانية والأخيرة في الحلقة السابقة تحدثنا عن تشكيل قيادة جيش التحرير هيكلا مركزيا يتمثل في لجنة التنظيم العسكري في الشرق والغرب، يخضع لسلطته قادة الولايات العسكرية الذين كانوا يتمتعون بشبه استقلالية في اتخاذ القرار، ولكن قادة الولايات الأولى والثانية والقاعدة الشرقية رفضوا التنازل عن جزء من صلاحياتهم لصالح هذه القيادة، ما أدى إلى نفيهم إلى بلدان عربية. إلا أن العقيد محمد العموري، قائد الولاية الأولى المنفي، نسق مع قادة الولاية الأولى والقاعدة الشرقية للإطاحة بالحكومة المؤقتة واجتمع بهم في مدينة الكاف التونسية الحدودية في 16 نوفمبر 1958، ولكن ليبيا وسائقا جزائريا اكتشفا بالصدفة خيوط المؤامرة وأبلغا كريم بلقاسم بذلك، فتم توقيف القادة العسكريين المجتمعين في الكاف ومحاكمتهم وإعدام أبرزهم. وفي هذه الحلقة نناقش اتهام قادة الثورة للمخابرات المصرية، بالوقوف وراء هذه المؤامرة وتداعيات هذا الاتهام على العلاقات بين الطرفين.
لا تتوانى بعض القيادات الثورية في توجيه أصابع الاتهام إلى مسؤولين مصريين وعلى رأسهم فتحي الديب، ضابط المخابرات، بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية التي قادها العقيد العموري وجماعته، ويقول العقيد علي كافي: ''تناهى إلى أسماعنا أن العموري وجماعته قاموا باتصالات مع مسؤولين في القاهرة ومنهم فتحي الديب وربما الرئيس عبد الناصر''، ولكن العقيد علي كافي لا يقدم في مذكراته دلائل أو وقائع تؤكد صحة ''ما تناهى إلى أسماعه''.
أما العقيد الطاهر زبيري، فيشير في مذكراته إلى أن العموري ''بعد نفيه إلى السعودية، استقر في القاهرة وواصل انتقاداته للجنة التنسيق والتنفيذ واتصل بالسلطات المصرية التي لم تكن مطمئنة لإعلان الحكومة المؤقتة برئاسة فرحات عباس''، ولكن زبيري هو الآخر لم يقدم تفاصيل عن طبيعة هذه الاتصالات.
أما فتحي الديب فيوضح أن كريم بلقاسم ''اتهم القاهرة بإثارة الفتنة داخل الثورة الجزائرية''، وهذا ما دفع قادة الثورة إلى إبداء لا مبالاتهم بدعم مصر للثورة، إلى درجة أن محمود شريف قال صراحة لفتحي الديب ''أصبحنا في غير حاجة لمعونة مصر''، أما عبد الحفيظ بوصوف فذهب بعيدا عندما قال: ''ما لدينا من سلاح يكفينا لمواصلة الكفاح لسنين طويلة''. يوضح بن طوبال بأن ذلك راجع لعدم ثقة عبد الناصر في فرحات عباس، رئيس الحكومة المؤقتة، وإلى خشيته من تشكيل جبهة مغاربية موحدة قد تكون منافسة لزعامته العربية، وذلك إثر انعقاد مؤتمر طنجة، الذي جمع قيادات الأحزاب الرئيسية في كل من الجزائر والمغرب وتونس فتحي الديب يحاول إلصاق التهمة ببوصوف وبن طوبال
في محاولة لتبرئة نفسه من تهمة الوقوف وراء ''مؤامرة العموري''، لمّح فتحي الديب إلى أن عبد الحفيظ بوصوف، وزير التسليح والاستخبارات، ولخضر بن طوبال وزير الداخلية، كانا يدعمان سرا المحاولة الانقلابية التي قادها العقيد العموري، رغم أن هذا الأخير وضع بوصوف وبن طوبال على رأس قائمة الشخصيات القيادية التي يجب الإطاحة بها ومحاكمتها إلى جانب كريم بلقاسم ومحمود الشريف.
ويقول الديب ''تبين لنا من تحرياتنا الدقيقة أن بوصوف وبن طوبال كانا على اتصال وثيق بالعموري واليوزباشي مصطفى لكحل المؤيد للعموري والمبعد أيضا إلى القاهرة''، ويؤكد أن ''الاتصال تم بالقاهرة ودون علم أعضاء الحكومة المؤقتة''. وحسب قراءة ضابط المخابرات المصرية حول سبب هذه الاتصالات، فإن ''بوصوف بموقفه هذا أراد ضمان مستقبله إذا ما نجح انقلاب العموري الذي يدعمه كل قادة الجبهة الشرقية، بالإضافة إلى الاستفادة من الفرصة التي أتاحها له القدر بالتخلص من كريم بلقاسم ومحمود شريف عن غير طريقه''.
ويدعي فتحي الديب أن بوصوف زوّد محمد العموري ومصطفى لكحل بجوازي سفر جديدين، وعقد جلسة سرية هو وبن طوبال مع العموري ولكحل قبل سفر الأخيرين لتونس استغرقت ثلاث ساعات، وعندما اكتشف محمود الشريف (أحد القادة العسكريين في لجنة التنسيق والتنفيذ) المؤامرة، اتصل ببوصوف فوجد منه عدم اكتراث.
وذهب الديب في اتهاماته لبوصوف بعيدا، عندما أشار إلى أن هذا الأخير لـمّح له بأنه ''على اتصال بقادة الجبهة الشرقية وأنهم طلبوا منه التخلص من كريم بلقاسم ومحمود الشريف وأنصارهما، مبدين استعدادهم لتأييده''. ويضيف الديب أن بوصوف ''راوغه'' عندما استفسره حول ما يريد فعله.

عبد الناصر يأمر بمواصلة تزويد الثورة بالسلاح
تسببت مؤامرة العموري في حدوث أزمة ثقة بين بعض قادة الثورة وبعض المسؤولين في القاهرة، وصب ذلك في مصلحة الاستعمار الفرنسي الذي سعت مخابراته لتعميق الخلافات بين قادة الثورة فيما بينهم وإحداث شرخ في العلاقات مع الدول التي تدعمهم على رأسها مصر عبد الناصر، وكان من تداعيات هذه الأزمة سعي قادة الثورة إلى نقل جزء من أعضاء الحكومة المؤقتة من القاهرة إلى ليبيا وتونس.
ويعتبر فتحي الديب، في التقرير الذي رفعه إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر، عن الانقلاب العسكري الذي قاده العموري ضد الحكومة المؤقتة، بأنه ''كان النتيجة الطبيعية لسخط جيش التحرير على الحكومة (المؤقتة)''، ويجدد اتهامه لبوصوف بالوقوف وراء هذا الانقلاب ''لضمان تخلصه من كريم بلقاسم بعيدا عن أي اتهام له ببدء مرحلة تصفية جسدية لمنافسيه''. وأشار في التقرير إلى أن بورفيبة كان المستفيد الأول من فشل هذا الانقلاب لأنه لعب دور المنقذ لكريم بلقاسم، وفي آخر نقطة حاول الديب التلميح إلى أن انقلاب العموري وضع مصير الثورة الجزائرية على المحك وأن استمرارها مرتبط بخمسة عوامل يمكن تلخيصها في مدى تماسك قادة الثورة في الداخل والخارج وتجنبهم حدوث انقسام داخلي ومدى قدرة فرنسا على عزل الثورة خارجيا ومدى نجاح بورفيبة في توسيع الخلاف بين قادة الثورة ومصر وكذا موقف القاهرة من مواصلة دعمها للثورة.
وختم الديب تقريره باقتراح الوقوف موقف الحياد السلبي إزاء ''الصراع بين الوزراء العسكريين وقادة الداخل''، ومواجهة أعضاء الحكومة المؤقتة إزاء ما اعتبره ''موقفا سلبيا'' من اتهام بورفيبة للجمهورية العربية (مصر وسوريا) بإثارة الفتنة بين المسؤولين الجزائريين ومحاولاتهم حجب اتصالاتهم السرية (قادة الثورة) مع فرنسا وحقيقة اتجاهاتهم السياسية بالنسبة للمستقبل''، فقد كان الصراع واضحا بين بورفيبة ذي التوجهات الغربية وعبد الناصر ذي التوجه العروبي، وبين منطق المفاوضات مع فرنسا الذي كان يدعمه بورفيبة ومنطق استمرار الثورة الذي يدعمه عبد الناصر، حيث حاول كل طرف احتواء الثورة التحريرية كل حسب توجهاته، لكن قادة الثورة كانوا متمسكين باستقلالية القرار الجزائري والوقوف على مسافة واحدة من الدول الصديقة التي تدعمنا وعدم التورط في الصراعات والخلافات القائمة بينهم.
وكانت أوامر جمال عبد الناصر، حسبما ذكره فتحي الديب في مذكراته، ''مواصلة دعم الثورة الجزائرية بالسلاح (...) والالتزام بالنفس الطويل في التعامل مع أعضاء الحكومة الجزائرية حتى تتكشف كل المناورات''. وتسلم المندوب الجزائري عرعار خميسي شحنة من السلاح المصري يوم 2 جانفي 1959،وشحنة ثانية يوم 7 فيفري من نفس العام، على حد ما أكده الديب.

الصراع واضحا بين بورفيبة ذي التوجهات الغربية وعبد الناصر ذي التوجه العروبي، وبين منطق المفاوضات مع فرنسا الذي كان يدعمه بورفيبة ومنطق استمرار الثورة الذي يدعمه عبد الناصر

بوصوف وعباس يتهمان الديب بالتآمر على الثورة
وخلال لقاء فرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة وبوصوف بجمال عبد الناصر، في القاهرة يوم 6 فيفري 1959، اتهم الرجلان فتحي الديب صراحة بأنه المدبر والمخطط لمؤامرة العقيد العموري وأنه يحاول فرض إرادته عليهم، لكن عبد الناصر نفى ذلك بشكل قطعي وقال لهم ''بخصوص شكواكم من الأخ فتحي الديب، فإنني أحيلكم من الآن على الاتصال بالسيد كمال رفعت في كل ما يتعلق بشؤونكم''.
ولكن فتحي الديب يتحدث عن لقاء جمعه مع فرحات عباس في القاهرة وعدد من أعضاء الحكومة المؤقتة في مارس 1959، وقال له ''إن العموري اعترف بأنه اتصل بالسيد فتحي الديب وكشف له عن مخططه ولكن حذرته من مخططه على مستقبل الثورة الجزائرية في كلتا المرتين اللتين قابلك فيهما''.
وذكر فتحي الديب أنه قدم لفرحات عباس وكريم بلقاسم بحضور بوصوف وبن طوبال، وثائق أحضرها من غرفة العموري في القاهرة بعد مغادرته إلى تونس وعليها خط بوصوف لتسهيل سفر العموري بجواز سفر واسم جديد.

بن طوبال: عبد الناصر ربما نصح المتمردين بالانقلاب على الحكومة المؤقتة  
ورغم أن العقيد لخضر بن طوبال توفي، مؤخرا، دون أن ترى مذكراته النور إلى حد الآن، إلا أن ما رشح من هذه المذكرات التي نشرت الصحافة الوطنية جزءا منها، يبين أن القاهرة كان لها دور في انقلاب العقداء دون أن يجزم بن طوبال بذلك، رغم أنه تولى التحقيق مع المتهمين وجمع الأدلة طيلة ثلاثة أشهر، حيث أشار إلى أنه ''حسب تصريحات المتهمين أنفسهم والتي استقيناها خلال محاكمتهم، فإن عبد الناصر قد يكون نصحهم بأن يقوموا بانقلاب على الحكومة المؤقتة ثم توقيف القادة الرئيسيين للثورة، ليشكلوا بعدها حكومة جديدة يرأسها الأمين دباغين''.
وحول الدوافع التي جعلت عبد الناصر يقف هذا الموقف العدائي ضد بعض قيادات الحكومة المؤقتة، رغم أنه كان من أكثر الرؤساء العرب دعما للثورة الجزائرية، يوضح بن طوبال بأن ذلك راجع لعدم ثقة عبد الناصر في فرحات عباس، رئيس الحكومة المؤقتة، وإلى خشيته من تشكيل جبهة مغاربية موحدة قد تكون منافسة لزعامته العربية، وذلك إثر انعقاد مؤتمر طنجة، الذي جمع قيادات الأحزاب الرئيسية في كل من الجزائر والمغرب وتونس بين يومي 27 و29 أفريل 1958، فضلا عن اعتبار عبد الناصر أن الثورة الجزائرية اصطبغت بالماركسية بعد أن قرأ البيان الذي خرج به مؤتمر الصومام.  

بومدين يترأس المحكمة الثورية للفصل في مؤامرة العموري
وحسب مذكرات العقيد الطاهر زبيري الذي عيّن محاميا للعموري، فقد تشكلت محكمة عسكرية لمحاكمة العموري وجماعته واستدعي العقيد هواري بومدين ليترأس هذه المحكمة، وعيّن علي منجلي وكيلا للثورة. أما قايد أحمد والصادق دهيلس، فعينا مستشارين لرئيس المحكمة، بينما عيّن علي مشيش وعبد العزيز زرداني وفلوح محلفين.
ووجهت لهذه الجماعة تهم عدم الطاعة والتآمر على الثورة ونشر أسرار بنية مقصودة وتحطيم معنويات الجنود والعمل الانحرافي، وبعد 15 يوما من المحاكمة، قضت المحكمة الثورية بإعدام كل من العقيد العموري والعقيد أحمد نواورة والرائد عواشرية والرائد مصطفى لكحل، بالإضافة إلى أحكام متفاوتة بالسجن على البقية.
ويشير العقيد زبيري إلى أن فيالق القاعدة الشرقية الثلاثة، تمردوا احتجاجا على محاكمة قادتهم وأنه تدخل شخصيا للتوسط بين كريم بلقاسم وبين قادة الفيالق الثلاثة لإنهاء التمرد، ليتم في 1960 إعادة تنظيم جيش التحرير على الحدود الشرقية وتقسيمها إلى منطقتين شمالية وجنوبية، وانحلت القاعدة الشرقية داخل هذا التنظيم الجديد الذي أصبح خاضعا بشكل مباشر لقيادة الأركان العامة بقيادة العقيد هواري بومدين.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)