الجزائر

انعدام الأمن على طرق القوافل التجارية



كانت القوافل التجارية المتجهة نحو بلاد السودان الغربي تنطلق من تلمسان والمدن الشمالية في بداية الخريف من كل سنة وتعود أليها في منتصف ربيع السنة الموالية. ظلت هذه الرحلات لفترات طويلة غير مضمونة العواقب ومحفوفة بالمخاطر، وقد زادت الظروف الطبيعية القاسية في صعوبة الوضع، فشدّة الحرارة وكثافة الزوابع الرملية بالنهار وكدا الصقيع والجليد بالليل كلّها عوامل لم تساهم في التخفيف من معاناة التجار والمسافرين.
لم تكن الطرق التي كانت تسلكها القوافل آمنة من اللصوص وقطاع الطرق الذين كانوا يعترضون التجار فينالون منهم ويسرقون ممتلكاتهم. وكانت عمليات السطو تزداد في فترات الاضطرابات، وفي المسالك الخالية والوعرة إلى درجة أن أحد أئمة تلمسان، وهو أبو العباس أحمد المعروف بالمريض 1 ، قد أصدر فتوى تعكس خطورة الوضع، أرسلها إلى الشيخ الفقيه أبي عبد الله بن عرفة سنة 796هـ/1393م، هذا نصها: 'الحمد لله، جواب سيدنا أمتع الله بكم عن مسألة جماعة من مغربنا من العرب ما بين فارسها وراجلها قدر عشرة آلاف أو تزيد ليس لهم حرفة إلاّ شن الغارات، وقطع الطرقات على المساكين وسفك دمائهم، وانتهاب أموالهم بغير حق، ويأخذون حرم الإسلام أبكارا وثيبا، قهرا وغلبة، هذا دأب سلفهم وخلفهم، مع أن أحكام السلطان أو نائبه لا تنالهم، بل ضعف عن مقاومتهم فصلا عن ردهم، بل إنما يداريهم بالعطية والإنعام ببعض بلاد رعيته، ونصب عمالهم فيها وقطع نظر عمال السلطنة عن النظر في جبايتها وفعل أحكامها، بل هم مع ذلك لا تأمن الرفاق من جانبهم نصبوا الغارات على هذه البلاد التي نحن بها وقتلوا من عاجلوه وطلبوه على قطع رقاب المساكين، وأخذ أموالهم، وسبي حريمهم، فأمرناهم بقتالهم، وصرحنا بأنه جهاد لما قاله مالك في المدونة، فاجتمع الناس على قتالهم، فهزمهم الله وقتل منهم خلقا كثيرا، وأنكر ذلك علينا بعض المنتمين إلى العلم لهذه البلاد بل كلهم' 2 .

أمّا الحسن الوزان، فقد ذكر 'أن المنطقة الممتدة ما بين فاس المرينية وتلمسان قلّما ينجو فيها التجار، لا سيما في فصل الشتاء لأن الأعراب المستأجرين للحفاظ على الأمن في تلك المنطقة يكونون قد رحلوا عنها للرعي إلى مناطق أخرى، ويبقى منهم قلّة لا يستطيعون صدّ هؤلاء اللصوص' 3 .

وكان العبدري أثناء رحلته-التي بدأها سنة 688هـ/1289م- قد مرّ من تلك المسالك ووصف خطورتها قائلا:

'ولما انتهينا إلى المفازة التي في طريق تلمسان وجدنا طريقها منقطعا مخوفا لا تسلكه الجموع الوافرة إلا على حال حذر، واستعداد، وتلك المفازة مع قربها من أضرّ بقاع الأرض على المسافر لأن المجاورين لها من أوضع خلق الله، وأشدّهم إذاية، لا يسلم منهم صالح ولا طالح، ولا يمكن أن يجوز عليهم إلا مستعد' 4 .

وأعاد العبدري الكلام عن تلك المنطقة أثناء وصفه لطريق العودة إلى فاس مرورا بتلمسان، فقال:

' ثم وصلنا إلى تلمسان وكانت نيتي أن أقيم بها مدّة حتى أجد صحبة قوية أقطع بها المفازة التي في طريقها إلى رباط تازا، وهي منقطعة موحشة لا تخل من قطاع الطريق البتة، وهم بها أشّد خلق الله ضررا، وأكثرهم جراءة وأقلهم حياء ومروءة لا يستقلون القليل، ولا يعفون عن ابن السبيل ليس في أصناف القطاع أخس منهم همما ولا أوضع منهم نفوسا' 5 .

ولم يتمكن العبدري من الانتقال إلى فاس إلاّ بعد خروج قافلة تجارية كبيرة رافقها ومن كان معه، أحصى عدد جمالها بأكثر من ألف، واستغرق تجهيزها حوالي ثلاثة أشهر 6 .

وقد تعودت بعض القبائل الواقعة في الصحراء الشمالية الغربية فرض إتاوات على القوافل التجارية المارة بطريقها مقابل ضمان الحماية لها وتوفير الأمن. وفي المقابل، فقد اتخذت قبائل أخرى من السطو والاعتداء نشاطا لها لا يمكن أن تتخلى عنه إلا إذا هزمت وأخضعت من طرف جيوش سلاطين تلمسان وفاس 7 .

1 : هو أحد تلاميذ ابن عرفة، له شرح على عقيدة الضرير في العقائد، نقل عنه الونشريسي في المعيار. ابن مريم: البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، 1986،ص52.

2 : نصّ رسالة الشيخ أبا العباس في: الونشريسي: المعيار، تحقيق: محمد جحي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1981، ج2، ص435.

3 : الشريف الوزان: وصف إفريقيا، ترجمة: محمد حجي ومحمد الأخضر، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط2،ج2، ص 88؛ 1983.

4 : العبدري الحيحي: الرحلة المغربية، تحقيق محمد الفاسي، الرباط: 1968، ص 8.

5 : نفس المصدر، ص 132.

6 : العبدري، نفس المصدر، ص 132.

7 : Andre prenant, Andre Nouschi, Yves Lacoste. L,Algerie, passé et present.ترجمة: رابح اسطنبولي ومنصف عاشور، الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية 1984، ص 117. (العنوان المترجم: الجزائر بين الماضي والحاضر).


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)