الجزائر

الورد..لغة الحب والحرب!



للزهور بما فيها الورد سحرها على البشرية. أحيانا أتخيل آدم وقد حطّ لتوه، يجلس القرفصاء مبتسما فاتحا فمه على آخره، وبعينين جاحظتين يطيل النظر إلى زنبقة تميل برأسها نحوه. يقترب منها ليأكلها فإذا برائحتها الزكية تثيره وعطرها يفتنه، فيبقيها عند أنفه و يجتاحه شعور غريب يستهويه.نعم.. للورد منه تأثير غريب على نفسيات بني آدم. ذلك ما يؤكده الواقع في عصرنا، وتؤكده البحوث والتجارب العديدة، ومنها ما توصلت إليه باحثة من جامعة فلوريدا إيرين لارغو ويغت، التي وصلت استنتاجات مخابرها المذهلة إلى أن إهداء الورد دواء ناجع ضد الإجهاد والشعور بالقلق. ربما قد يصل الباحثون إلى وصفة الورد مكان الأقراص المهدئة لما له من تأثير ساحر.
ثم إنني أومن أن الورد ليس أبكما؟ بل إن له ألسنة ولغات ولهجات. وإن حالة تركه يتحدث بدلا عن الناس كانت عادة قديمة جدا تلاشت في القرون الوسطى، ثم استعادت مجدها في القرن الثامن عشر. حتى أن هؤلاء الإنجليز الذين لا يشبهون في مزاجهم البارد حرارة المتوسطيين، سلموا لشفاه الورد أمرهم، وتركوه يتحدث في مكانهم، وتعمقوا في معرفة فنون لغة فصيلته ، كما فعل ذلك قبلهم العثمانيون الذين كانوا قد استفاضوا في أمر اللون والمعنى لكل وردة وأخرى وزهرة وأخرى . فهم الإنجليز أن إهداء الوردة إنما هي رسالة واضحة وصريحة أعمق من اللغة.
الحق يقال لم تكن الإنجليزية آنذاك أكثر عالمية من لغة الورد. وحتى زمن الناس هذا، ومهما تتنتشر فلن تتجاوز لغة الزهور بما فيها الورود، على الرغم من قوتها الجبارة في التسلح النووي، والاقتصاد والهيمنة السياسية، ستظل لغة الورد الأبيض والزهري والفاوانيا،لا تحتاج إلى ترجمان يوصل تعابير الحب والحنان وطلب الودّ. وستظل زهرة الخزامي تصرح عاليا بالحب، بينما الملونة منها تهمس في أذن المعني أو المعنية بالإعجاب، وأما الحمراء منها فتبوح بتباريح الغرام، أما زهرة السوسن الزرقاء المائلة نحو البنفسجي فتحمل تحت جناحها سر الحنان الجارف، وزهرة النرجس تشي بالغرور والأنانية، وزهرة الأوركيد تغني بالشغف و يعبر الزنبق عن الصداقة والتعلق والحنان، وعباد الشمس يفضح الإعجاب و الهيام والافتتان والولع.
قواميس اللغات متفاوتة، منها ما هو ثري في التعريف والربط بين أنواع الورد وألوانها المختلفة ومعانيها، ومنها ما هو محدود مثلما يحدث في المخيال العربي المتكلم، فيصبح الحديث عن الورد والأزهار والأشجار والنباتات بصيغة الجملة والجمع، دون الدخول والبحث في تفاصيل الأشياء. فلا يهم مثلا معرفة أن الوردة الحمراء هي التي تحمل رسالة العشق، وأن زهرة الكوبية تقول الصراحة، والقرنفل يحمل رسالة يفشي من خلالها سر الحب الملتهب القوي.و زهرة الياقوتة البيضاء تعبر عن الحب والسعادة.
ثم إن لغة الأزهار بما فيها الورود تتجاوز مسمع المُهدي والمهدى إليه أو إليها، إلى حد التماهي في المجموعات البشرية الكبيرة. فهذا زهر الأقحوان مثلا في اليابان بلده الأصلي، يحتفل به وبأعياده آلاف اليابانيين، لأن الزهرة تمثل رمز العائلة الإمبراطورية.
وللون الأقحوان لغة شائعة بين الناس، فأصفره مثلا للحب المطلق، وأحمره للشعور بعاطفة الحب القوي العنيف الجارف، وأبيضه للحب الخالص الذي يشبه الحب العذري، والزهري منه للشعور بالحب في بداياته وتشكل علاقة تولد وتشي بعاطفة قوية في طريقها إلى الوجود.
ولأن الموت مربوط بحبل سرة الحياة، فإن لاحتفالاته التأبينية ورودا وأزهارا خاصة أيضا. فأنت تجد الفرنسيين يربطون زهر الأقحوان – وهو الشعب الوحيد الذي يفعل ذلك- بالموتى والمقابر. وتعود عادتهم هذه إلى الحرب العالمية الأولى، حيث نشأت عادة تزيين مقابر الضحايا والجنود بالزهور، خاصة زهرة الأقحوان دون غيرها . ثم إن الفرنسي رقيق المشاعر الذي يدرك منذ صغره أن الجيرانيوم أو إبرة الراعي تعني الصداقة، والوردة الحمراء العشق، والبيضاء الحب الصافي المهذب، والوردية الفرح الحنان السمو ، لن يهدي أبدا حبيبة قلبه باقة من الأقحوان.
أنت أيضا لا بد أنك رأيت في الواقع أو شاهدتَ أفلاما أو صور بالألوان أو بالأبيض والأسود لنساء وفتيات واقفات على قارعة الطريق، يوزعن الورود على الجنود الذاهبين إلى معارك الموت خلال الحروب، أو الناجين العائدين منه. لنعترف أن الورود على الرغم من جمالها وألوانها الزاهية وعطرها الخلاب وهي جزء من الطبيعة، إلا أن الإنسان بشراسته وطغيانه، قد يحمّلها مما يحمله هو نفسه من عنف.
- هل سمعت بحرب الوردتين؟ يسميها المؤرخون هكذا «حرب الوردتين» .. إنها سلسلة حروب أهلية طاحنة في إنجلترا خلال القرن الخامس عشر كانت الوردة الحمراء فيها شعارا خاصا ببيت العائلة المالكة لانكاستر بينما بيت اليورك وهم الخصوم فقد تبنوا شعار الوردة البيضاء. إنها حرب الوردتين. ولأن النقيض يبدي جليا نقيضه، يحدثنا تاريخ الحرب العالمية الثانية عن مجموعة شباب من الطلبة، من المقاومين الألمان ضد النازية في 1942 أثناء الحرب في ميونيخ، مجموعة تحت اسم ( الوردة البيضاء) كانوا يكتبون بشجاعة ضد النازية، ويوزعون مناشير ضد هتلر وسياسته العنيفة العنصرية و الهمجية. وعلى الرغم من أنهم أوقفوا جميعا وأعدموا من طرف الغستابو إلا أنهم قبل تنفيذ الإعدام، أبدوا شجاعة كبيرة، وأفصحوا لجلاديهم أنهم لم يندموا على شيء مما قالوه أو كتبوه أو قاموا به.
مازالت جامعة ميونيخ تحمل اسمهم. ولو مررتَ ذات يوم على الجسر الواصل بين المجلس الأوروبي والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في مدينة ستراسبورغ المسمى (جسر الوردة البيضاء)، فتذكر أنه شيد لتخليد شجاعة هؤلاء الشباب و نقاء أرواحهم. أتدري ؟!.. الزهور بما فيها الورد ليست رفيقة الشعراء فقط بمختلف لغاتهم، وليست ملهمة الفنانين العظماء فقط ، مثلما فعلت الكوكليكو زهرة حوض البحر المتوسط بالفنان كلود موني Claude Monet، أسرتْه بوريقاتها الأربع الحمراء، وتمددها كبساط أحمر قان فوق الحقول أثناء الربيع والصيف كما الخريف، لم تكن لوريقاتها ولحُبيباتها السوداء أية رائحة، إلا أنها ألهمته. الزهور والورود ملهمة الناس جميعا أيضا، في الحرب والسلم، حتى وهم لا يعرفون لغتها، إلا أنهم يشعرون بأنها تتحدث بلسان قلوبهم .


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)