أعطى السلطان يغمراسن التلمساني، أهمية كبيرة لموضوع المهاجرين الأندلسيين، وإن الظهير الذي أصدره في شأنهم، يؤكد على العناية الكاملة بهم، ويكرم نبهاءهم وأعيانهم غاية الإكرام، ويبين حقهم في السكن والتملك للأراضي الزراعية المناسبة لنشاطهم، في أرضهم المفقودة بالأندلس، حتى يشعرون بالأمن والتسلية عما فقدوه في وطنهم، ويبدو أن العاصفة الدينية والأخوية والإنسانية كانت لها أثر كبير في إصدار ذلك الظهير، الذي يتطرق إلى وضع هؤلاء الأندلسيين والتماس المكان المناسب لهم، للإقامة ومطالبة الجميع، وحثهم على تنفيذ الأوامر الصادرة في هذا الشأن(74)، ويتكئ هذا الظهير على ما لحق بالأندلسيين من مصائب، في عقيدتهم وفي أموالهم وأوطانهم، وينص الخطاب الرسمي في الظهير على أن يغمراسن: ((بوأهم من اهتمامه الكريم وانعامه العميم جنات ألفافا))(75).
ويصرح ابن الخطاب بأن يغمراسن، فضل أن يسكن المهاجرين الأندلسيين مدينة تلمسان، عن جيمع المدن الأخرى، وفي هذا الصدد يقول: ((وأطلع (يغمراسن) على أغراضهم (الأندلسيون) السديدة في اختيار حضرته السعيدة للسكنى، على سائر البلاد، فلحظ منهم النية واعتبرها وأظهر عليهم مزايا مالهم من هذه... وأذن أيده الله لهم ولمن شاء من أهل تلمسان)) (76).
وأن ظهير يغمراسن يجعل من منحه السكن، ووسائل أخرى لهؤلاء، هو تهدئة لنفوسهم المصابة من ظلم خصومهم واعدائهم، وطمأنتهم على حاضرهم ومستقبلهم وفي هذا يقول ابن خطاب : ((ووطأ لهم جناب احترامه تأنيسا لقلوبهم المنجاشة إلى جانب العلي واستيلافا، وأشاد بماله فيهم من المقاصد الكرام، وأطفى عليهم من جنن حمايته ما يدفع عنهم طواق الاضطهاد))(77).
ولعل أكبر جالية أندلسية نزلت بتلمسان، هي التي كانت في عهدي الأميرين عبد الواحد بن أبي عبد الله (814-827هـ/1411-1424م)، وخلفه أبي العباس أحمد الزياني (834-862هـ/1431-1462م)، وقد استقبلهم هذا الأخير بحفاوة ووجههم حسب طبقاتهم وحرفهم، فالعلماء والوجهاء وسراة القوم، أنزلهم عاصمته مدينة تلمسان، وأنزل معهم التجار والحرفيين، وأصحاب رؤوس الأموال في درب خاص بهم، عرف بدرب الأندلسيين(78).
كما قام باسكات العامة والفلاحين ضواحي المدينة وأحوازها، ولاسيما في وادي الوريط فانتشروا على ضفتيه، حيث شيدوا قرى وبساتين وأسسوا مصانع عديدة ومتاجر كثيرة، وغرسوا الحقول والمزارع المختلفة الثمار، فجلبت للبلاد، وأهله الخير والنعمة(79)، ويشير إلى ذلك ابن الأعرج بقوله : ((واظهروا هناك من صنائعهم ومتاجرهم، ما عاد بالنفع على البلاد وأهلها وملئوا تلك الشعاب من البساتين المتنوعة الثمار، وأنواع الرياحين والأزهار... واتصلت مساكنهم بذلك الوادي إلى نهر السطفسيف(80)، أقاموا بها عمارة بقيت آثارهم بتلك الشعاب العميقة ذات الأدراج المؤنقة والمياه المتدفقة، والثمار المتنوعة(81)، وقد وصلت قرى هذه الجالية الأندلسية إلى جبل بيدر حيث توجد زاوية الشيخ أحمد بن محمد المناوي الحسني المتوفي سنة (930هـ/1524م)(82)، والي مدشر ((الشولي)) وعين تالوت، التي برز فيها العالم علي بن محمد التالوتي الأنصاري، وهو أحد إخوة الإمام السنوسي التلمساني المتوفي سنة (895هـ/1489م)(83)، ومدشر عين ((فزة)) وغيرها من المداشر والمعاهد التي ذهب رسمها، ولم يبق إلا إسمها، في ضواحي مدينة تلمسان وأحوازها (84). فقد حددت درجة الثقافة ونوعيتها والمهنة، التي كان يحترفها المهاجرون الأندلسيون المكان والوظيف، الذي يتناسب مع طبائعهم واختصاصهم الحرفي والمهني، فأهل البادية والزراعة وجهوا إلى المناطق التي تكثر فيها الفلاحة، ووجه المثقفون والتجار والحرفيون وأصحاب رؤوس الأموال، إلى مدينة تلمسان عاصمة بني زيان، أما أصحاب الملاحة والصيد البحري، فاستقروا بالمدن الساحلية (85)، ويؤكد ذاك قول المقري: ((ولما نفذ قضاء الله، على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة، فتفرقوا ببلاد المغرب من بر العدوة، حتى بلاد إفريقية، فأهل البادية قد مالوا إلى البوادي، إلى ما اعتدوه ودخلوا على أهلها، وشاركوهم فيها، فاستقوا المياه، وغرسوا الأشجار واحدقوا الأرض، وعلموهم أشياء لم يكونوا يعلمونها ولا رأوها، فشرقت بلادهم وصلحت أحوالهم))(86).
وقد استمر تدفق الهجرة الأندلسية وتقاطرها، على مدينة تلمسان ودار الإسلام في بلاد المغرب وإفريقية بدون انقطاع، إثر وبعد سقوط غرناطة وزوال دولة بني الأحمر سنة (897هـ/1492م)(87)، ومما تجدر ملاحظته أن هؤلاء المهاجرين، قدموا إلى بلاد المغرب الأوسط- كما وضحنا سابقا- في مجموعات (جاليات) موزعة في الزمان والمكان (88)، وبالرغم من أنهم لا يختلفون كثيرا على السكان المحليين، من حيث اللغة والعرق والدين واللباس والطبائع (89)، إلا أنهم ظلوا محافظين على مميزاتهم وخصوصياتهم الأندلسية، والبعض من عاداتهم وتقاليدهم، ونمط حياتهم، كما كانوا كثيرا ما يظهرون، الاعتزاز ياصلهم، وبانتمائهم الجغرافي الأندلسي(90)، وكانوا يمتهنون مختلف المهن والصناعات(91).
وقد أقدم المحترفون بالفلاحة، على تطوير الزراعة، وتجديدها باستعمال أساليب وطرق زراعية متطورة، في ضواحي مدينة تلمسان، وخارج أسوارها ولاسيما على ضفتي وادي الوريط، واختص آخرون بفن البناء والعمارة وصناعة الجلود، وفن الخطوط والتعليم وتجارة الخشب، بينما اتجه آخرون.
إلى الاشتغال بالتجارة، ومختلف الصناعات المفيدة، من طرز ونسج الحرير، وحياكة القطن، والكتان، وغزل الصوف، وقاموا بتطوير صناعة الفخار والخزف، وأنواع عديدة من السلاح، وسائر الأواني والأدوات المنزلية المعروفة آنذاك، ويؤكد ذلك المؤرخ ابن الأعرج بقوله : ((وكان لعهد نزول الأندلسيين بها (تلمسان) مزدانة بالمصانع المفيدة، فما شئت من أطرزه/ ومنسوجات الحرير، والقطن والكتان والصوف، ومعامل الفخار والخزف وأنواع السلاح، وسائر الأواني المنزلية))(92)، وقوله في مكان آخر أنهم:
((نشروا بين الناس آدابهم وراجت مصانعهم، وقلدهم الناس في فلاحتهم، واعتنائهم بغرس الزيتون، وسائر الفواكه، حتى صارت البلاد وأهلها في حالة زاهية وعيشة راضية))(93)، وعمل بعض الأندلسيين، في صفوف الجيش الزياني، كجنود وضباط في الفرق العسكرية، فقد استعمل منهم أبو يحي يغمراسن، إبراهيم الآبلي وأخاه أحمد، في سلك الجندية، حتى صار إبراهيم قائدا عاما لمدينة هنين (94).
فبالإضافة إلى الشرائح الاجتماعية الأندلسية التي ذكرناها، توجد من بينهم طبقة هامة من المهندسين والبنائين واليد العاملة الفنية، التي أرسلها السلطان الغرناطي أبو الوليد (713-725هـ/1313-1325م)، إلى مدينة تلمسان في إطار التعاون الفني والاقتصادي والعسكري، الذي كان سائدا بين تلمسان وغرناطة، فاستعملهم أبو حمو موسى وابنه أبو تاشفين في بناء القصور والمنازل الفخمة والبساتين الناظرة، وفي هذا الصدد، يقول ابن خلدون: ((فبعث إليها (تلمسان) السلطان الوليد صاحب الأندلس بالمهرة، والحداق من أهل صناعة البناء بالأندلس، فاستجادوا لهم القصور والمنازل والبساتين))(95).
وكذلك هاجر الأطباء والعلماء، والفقهاء، والأدباء، إلى مدينة تلمسان حاملين معهم مصنفاتهم ومكتباتهم، فاحتضنهم البلاط الزياني بحفاوة، وقلد بعضهم خطط الكتابة والحجابة، وقد اشتهر من بينهم ((بنو وضاح)) الوافدون من شرق الأندلس، في بداية عهد أبي يحي يغمراسن، فقربهم إلى مجلسه وأنزلهم منزلة الخلو والشورى (96)، فدعم بهم أركان دولته، وجعلهم أداة توازن، وكان الأديب أبو بكر بن خطاب مرسلا بليغا وكاتبا مجدا وشاعرا مفوها، جعله يغمراسن كاتبا وصاحب القلم الأعلى في بلاطه(97)، صدرت عنه عدة مراسلات إلى ملوك الموحدين بمراكش، وبني حفص بتونس(98)، كما وفدت إلى مدينة تلمسان، أسرة أندلسية اشتهرت بالعلم والأدب والفقه، هي أسرة ((بني ملاح)) من بيوتات مدينة قرطبة ومن سراتها. كانوا يحترفون سك النقود، ويتمتعون بثقة كبيرة، ويتصفون بالأمانة، نزلوا بتلمسان مع جالية قرطبة، وتقلدوا وظيفة سك النقود وخطة الأشغال، وزادوا إليها مهنة فلاحة الأرض بضواحي تلمسان، بالإضافة إلى منصب الحجابة (99).
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 20/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com