الجزائر

النقد المسؤول



ليس من باب المعاودة التي لا وظيفة لها، أو من باب الترف الذهني العابث، التأكيد على واقع النقد في الوطن العربي، وفي الجزائر أيضا.هناك دائما مسوغات لذلك بالنظر إلى استمرارية العلل والمعلولات الداعية إلى مساءلة راهن النقد وعلاقته بالخطابالأدبي والفني، سواء كان لغويا أم غير لغوي، سرديا أم شعريا أم مسرحيا أم سينمائيا.أقدّر، كما فعلت سابقا في مجموعة من المقاربات، وكما فعل غيري من الكتاب والنقاد، أنّ النقد والإبداع لا تجمعهما قرابة أكاديمية قادرة على التأثير والتغيير، ماعدا في الدراسات الجامعية التي تحتكم، في أغلبها، إلى المناهج الوصفية الوافدة إلينا من الغرب، و هي على درجة كبيرة من الانضباط والدقة على المستويات المنهجية والمفهومية والمصطلحية، ومن ثمّ قدرتها الكبيرة على التفكيك، بيد أنها تظلّ حيادية، وغير مؤثرة بسبب طبيعتها الوصفية، وبسبب ضوابط المنهج.
وإذا كانت هذه المقاربات التقنية، بآلياتها الراقية، التي تعدّ امتدادا للدرس اللساني الغربيوفروعه المختلفة التي هيمنت أعواما على المشهد النقدي: البنيوية، الشكلانية، الدلالية، التداولية، السيميائية، فإنّها تظل، رغم قيمتها العلمية، مقاربات حيادية من حيث اهتمامها بعرض تمفصلات الخطاب وتشكلاته، ليس إلاّ، أي دون الإشارة إلى السلبيات والايجابيات التي يمكن العثور عليها في القصة والقصيدة والمسرحية والرواية واللوحة الفنية.
قد يكون من المفيد، بالنسبة إلى هذه الفئة من النقاد، التي تكرّست منذ نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، إعادة النظر في مآل هذه الأدوات الإجرائية وقدراتها على إمداد الخطاب بآراء تقوي وجوده. علما أنّ النقد الغربي نفسه بدأ يتراجع عن صنميته السابقة إذ وصل إلى طريق مسدود استدعى إعادة التموقع لقراءة ذاته: تودوروف في كتابه الأدب في خطر وأمبرتو إيكو في آليات الكتابة السردية، إضافة إلى احتماء بعض النقاد العرب بما يشبه النقد التوفيقي، دون الاعتراف علنا بهذا الخيار الذي يضع تجربة النقد على المحك.
ليس لنا أن نقلل من قيمة النقد الجديد في الجزائر. ،إنّه من منظوري، من أهم مكاسب الأدب في الخمسين سنة الأخيرة، وهو يشتغل حاليا باحترافية ومؤهلات كبيرة يمكن أن تكشف على مختلف تمفصلات البناء. بيد أنّ طبيعته تمنعه من اتخاذ الموقف، من تقييم الخطاب وإبراز جمالياته وإيجابياته ومستواه الفني، وهذي إحدى المعضلات الحقيقية التي وجب التفكير فيها بروية، كاحتياط ضروري للسنين القادمة التي ستقرأ نقدا معياريا اكتفى بالكشف عن طرائق القول، دون طبيعة هذه الطرائق وتأثيراتها على المنجز.
إنني مقتنع، بالمقابل، بأنّ مغامرة النقد الجمالي تستدعي زادا معرفيا، أمّا الافتقار إلى هذا الأثاث فيفتح المجال واسعا للذاتية، وسيؤدي ذلك إلى ظهور نقد لا هوية له. كما حدث في السبعينيات من القرن الماضي، عندما أصبح النقد نفعيا و وسيلة من وسائل الأدلجة و تصفية الحسابات، أو طريقة للتقرب من بعض الكتاب ومن مصادر القرار.الشيء ذاته في بعض النقد الصحفي الحالي الذي لا يؤسس على الذائقة، بقدر اتكائه على طبيعة العلاقة بين "الناقد" و الكاتب، أو بين الصحفي و صاحب الكتاب، دون التأسيس على معرفة نقدية مؤهلة لاستقبال النص استقبالا عارفا.
قد يسهم انسحاب النقد الأكاديمي من الساحة الأدبية في تكريس تقاليد نقدية باهتة، مرتبكة و مهزوزة:المفرنسون لا يكتبون عن المعرّبين أبدا، و هم يحتكمون إلى منطق لا يمت بصلة إلى الحقل الإبداعي (و هذه المسألة بحاجة إلى فتح نقاش أكاديمي جاد لمعرفة أسباب إقصاء المفرنسين لكل ما ينتج باللغة العربية في الجزائر، عكس ما يفعله المعربون الذين يكتبون عن الأدب الفرنسي، في لغته الأصلية، أو مترجما).
أما المعرّبونفقد انقسموا إلى ملل و نحل، وليس ذلك بجديد. ثمة طائفة تستجدي المفرنسين من أجل احتلال مساحة في دائرتهم المغلقة منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، و لا أحد يستطيع إثبات العكس: لم تكن مواقف الطاهر وطار، الواخزة أحيانا، مواقف مجانية أو متحاملة.لقد كانت مبنية على معطيات عينية طالما تسترنا عليها تفاديا للفتنة اللسانية وخلفياتها و نتائجها.
النقد الصحفي المفرنس غير بريء، و أغلبه يفتقر أيّما افتقار إلى الأدوات النقدية الكفيلة بدراسة تمفصلات المعنى، بيد أنّ له تأثيرا يجب البحث عنه خارج النص ومكوّناته، وقد يستدعي هذا إثارة جدل علمي، دون فتنة، و دون ملاسنات تقوي الحاجز الفاصل بين هؤلاء وهؤلاء، لأنّ ذلك لا يخدم الأدب و النقد على حدّ سواء.
إنّ احتماء بعض المعربين بالنقد المفرنس ناتج عن إحساسهم بأنّ الشهرة يجب أن تمرّ من بوابة اللغة الفرنسية كآلية تتحكم في مفاصل الإبداع الحالي، هكذا تترجم أعمالهم إلى لغات أخرى لتتخطى الحدود الجغرافية و اللغوية، و بأيّ ثمن؟ولذلك انتقل بعضهم إلى الكتابة بهذه اللغة الأجنبية بحثا عن اختراق الحدود الجغرافية واللسانية، مهما بدا التحكم في اللغة الفرنسية ضعيفا.
والحال إنّ هناك معايير مماثلة داخل النقد المعرّب، أو في جزء منه.لقد ظهرت في السنين الأخيرة مجموعة من اللوبيهات التي تتحكم في عناوين صحفية وفي برامج إذاعية و تلفزيونية، وفي دور النشر و الجمعيات والمؤسسات الثقافية، وهي التي تقدّر الآن ما يجب نشره و دعمه، وما يجب طمسه، مهما كانت عبقريته، وقد يتعدّى ذلك إلى طريقة صناعة الكتاب والترويج له إعلاميا.
يمكننا، بطبيعة الحال، الإشارة إلى المفاضلات غير الأدبية التي تتبوأ الشأن الأدبي، إذ عادة ما تسهم العلاقات والمناصب في الإعلاء من شأن هذا أو ذاك، مع أنّه ليس أفضل مما يكتب، كما أنّه لا يشكل أدبا تمثيليا يحلّ محل التجارب التي لا حظّ لها، رغم قيمتها ومكانتها. ومع أنّ القراء يدركون ذلك، فإنّ هذه العوامل مجتمعة ستكرّس التقييمات المزيفة في سياقات تاريخية، ما يعود بالضرر على الحقيقة الأدبية برمّتها.
إنّ انتفاء الموضوعية في قراءات كثيرة لأدبنا بأجناسه لا يقدم له شيئا بقدر ما يسهم في صناعة مرجعيات مشوهة، ظرفية من حيث إنّها مصنوعة على المقاس. وإذا كانت هذه الأعمال فقيرة إلى الملكة و الموهبة والحِرفية، وإلى ما يجعلها مؤثرة وخالدة فإنّ تحويلها إلى هالات لن يضمن لها أية ديمومة في التاريخ الأدبي من حيث إنها ارتبطت بنقد دعائي لا يبني على تقاليد علمية تؤهله لأن يقرأ النص بموضوعية، وبناء على خلفيات معرفية مركبة. ثمة دائما في هذا الكون مصفاة للتاريخ.لقد طُمسَت عدة هالات أدبية، رغم قيمتها المثلى، كما حدث مع كتاب ميخائيل بولجاكوف الموسوم "الرواية المسرحية" عشرات السنين، لكنه صوّر ووزع على ملايين القراء، ثم طبع بعد وفاة الكاتب بأعوام، دون أن يفقد ألقه لأنّه كان عبقريا وموهوبا، و لأنّه كان أهلا لذلك. قد لا يفهم النقد، وقد يخطئ أو يجامل، وقد تسيء الذائقة مسايرة الآثار الجيدة، لكنّ الوقت لا يخطئ أبدا في إعادة الاعتبار لما أهمل أو همّش، أو ما كان يشكل خطرا على من يمثلون الواجهة الأدبية المزيفة. أفكر مثلا في إمكانية عودة مالك حداد بقوة كبيرة إن حدث أن أولاه النقد أهمية أكبر، وهذا وحده كاف لإسقاط بعض الأسماء الكبيرة التي أعلى من شأنها بعض النقد الذي لا قيمة له، وكثير من الكتابات الصحفية التي لا تؤسس على الصدق.
من المهم أن يستفيد النقد من الاتجاهات النقدية الجديدة لكسب مهارات منهجية ومفهومية دقيقة. لكن انكفاءه الحالي لا يسهم في إنتاج قراءة مسؤولة، ومن ثمّ إمكانية تطعيم مقارباته بآليات تلغي المسافة الفاصلة بينه وبين عنصر التقويم كحتمية تعمل على غربلة المنجز بإدراك الرائي العارف. كما يفعل حاليا الناقدان الجزائريان مخلوف عامر ومحمد الأمين بحري في كيفية تلقي النصوص والتعليق عليها. هذا الشكل مؤهل لإعادة قراءة المنجز قراءة موضوعية، بعيدا عن المقاربات الوصفية التي عجزت عن إبراز الحقائق الأدبية والفنية، وبعيدا عن مداهنات الإعلام، ما أسهم في تبوأ أسماء غير مؤهلة لأن تكون تمثيلية، لكنّ القراءات الساذجة والعلاقات والأموال جعلتها كذلك، مرجعا ومصدرا.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)