ربما انتسبت رواية « أدين بكل شيء للنسيان « إلى هذا الصنف الذي نظر إلى الحداثة انطلاقا من فهم خاص، دون أن يكون بالضرورة مقياسا نهائيا، أو مرجعا يمكن التأسيس عليه كنموذج منته. إنه يمثل تجربة من التجارب التي راهنت على نقل الحقيقة الاجتماعية، وعلى فضح المضمرات التي ظلت ضاغطة وموجهة للوعي، ومن ذلك مسألة المرأة وما ارتبط بالتفسخ الاجتماعي الذي كان في خانة الممنوعات التي يمكن أن تلحق، من وجهة نظر السلطتين السياسية والدينية، ضررا بالمجتمع ومقوماته، أو بالتوازن الظاهري لمجتمع متشظّ، كما ترى مليكة مقدم في هذه الرواية، وفي غيرها من الروايات، ومنها رواية المتمردة.موقعة الرواية: زمن الأحداث:
تنحصر الأحداث في مدن ثلاث: بشار ووهران وباريس، وهي تشمل فترة زمنية تقدر بحوالي أربعين سنة، إن نحن احتسبنا ما ارتبط بالارتدادات المتعلقة بحدث شنق الصبي من قبل الخالة، بتواطؤ الأم والأسرة الكبيرة بدعوى إخفاء حادث زنا المحارم الذي كان سيفجر العائلة التي اشتهرت بالتربية الدينية.
هناك إشارات مكثفة إلى فترة التسعينيات التي شهدت ظهور الإسلاميين في الجزائر. لقد أغرق المجتمع في فوضى من الترهيب والعنف والتصفيات التي مست المثقفين والصحفيين والجامعيين ورجال الدين بفعل هيمنة خطاب مضاد. وقد كانت المرأة من المواضيع التي تناولها هذا الخطاب الجديد الذي يقوم، من منظور الساردة سلوى مفيد، على نفي العقل والحياة ومكانة المرأة في حركية المجتمع، سواء باحتقارها أو بمحوها، وذلك بتمرير خطاب قائم على تأويل موجه.
العنوان كعتبة:
ظلت ذاكرة سلوى مفيد حاضرة، وهي تتموقع في خانة المرسل الذي كان وراء إنتاج النص، ذلك أنها كانت محفزا للتنقيب عن ملابسات الجريمة التي ارتكبتها العائلة، وهي التي وقفت خلف المساعي السردية برمتها، وخاصة ما تعلق بالموضوع النووي المتمثل في وأد صبي درءا للعار: « بأي ثمن قبل هذا الزوج زهية، ثمن امتلاك زوجة جميلة والتضحية بحياته؟ وأي الرجلين اللذين كانا في البيت كان والد الرضيع الذي تمت التضحية به؟ أبي أم عمي الذي ما زال شابا؟».
لقد بني النص على لواحق ذات ارتباط بما بقي في ذاكرة الساردة، وهي إذ تعود إلى الطفولة، إنما تأسيسا على وقائع عايشتها، لذلك لا يمكن أن تكون مدينة للنسيان، بل للذاكرة التي ظلت تزودها بمواد سردية، وهذه الذاكرة نفسها هي التي كانت وراء المنجز، وهي التي ساهمت في ظهور حالات ومتغيرات كثيرة، فصلية ووصلية، ومنها تمرد البطلة على الأسرة والمجتمع والرجل والدين، ثمّ المناداة بالتحرر الجذري.
سلوى مفيد: الذاكرة المتشظية
تشير كثير من العلامات النصية إلى أنّ تاساردة ليست سوى الكاتبة نفسها، ذلك أنّ مجموع البطاقات الدلالية تؤكد أن الرواية عبارة عن سيرة ذاتية لمليكة مقدم التي تنقل فيها جزءا من حياتها ومنظوراتها لمجتمع متفسخ: الولادة في بشار بالجنوب الجزائري، الانتقال إلى وهران لمتابعة الدراسة، السفر إلى وجدة المغربية، الذهاب إلى باريس، ممارسة الطب.
يمكننا معرفة حياة الكاتبة لمعرفة المسارات السردية، دون قراءة الرواية، كما أنّ قراءة الرواية تضيء لنا حياة الكاتبة ومواقفها. ثمة تلازم بين هذا وذاك. ذلك أنّ الرواية تمثل صورة منها، تفصيلا تفصيلا. ثمة مجاورات تميل إلى التطابق. خاصة ما تعلق باضطهاد المرأة، سلطة الفقيه والسياسي، سلطة العائلة وتسلط الثقافة والممارسات النقلية القائمة على الحفظ.
بنت الرواية على مجموعة من الموضوعات التي ظلت في خانة الممنوعات: الإرهاب، الجنوسة، زنا المحارم، الإلحاد، الحرية، الاستعباد، النفاق. لقد تناولت الكاتبة هذه المسائل بنوع من الجرأة المفرطة. غير أن اللافت للانتباه هو تركيزها على المرأة في مجتمع رجولي يقوم على إقصائها بناء على مرجعيات يقينية.
لم تخرج الرواية عن ثنائية الشرق والغرب: الشرق المتخلف والغرب المتحضر، الشرق المظلم والغرب المضيء. وقد تساعدنا الحقول المعجمية المتضادة على الكشف عن هاتين الثنائيتين: القاموس السلبي عندما يتعلق الأمر بالصحراء كفضاء مغلق، والقاموس الايجابي عندما يتعلق الأمر بباريس كمكان ينتج المعرفة والحرية.
كما يمكننا، تأسيسا على الصور والمجالات التصويرية، استخراج مجموع القيم المتضاربة التي تخص المكانين. هناك من جهة فضاء الصحراء الذي يمثل القهر والاحتقار والتخلف والسجن والموت، وهناك فضاء باريس الذي يحيل على العدالة والمساواة والحرية والحضارة. أمّا مدينة وهران، كجسر يفصل ما بين المكانين، فتمثل بعض الانفتاح والخوف والتردد، وبين هذين المكانين المتعارضين تقف الطبيبة لتسائل المرجعيات.
المقدس والمدنس: الرؤية المقلوبة
إنّ الاحتكام لمنظور الساردة سلوى مفيد يجعلنا أمام مراهنة مفارقة للمعيار المتواتر في مجتمع له مقوماته. لم تعد الصحراء، بالنسبة إلى الساردة، مكانا طاهرا. لقد أصبحت فضاء للمسخ والانحراف والعنف، خاصة مع مجيء الإسلاميين الذين شددوا الخناق على المجتمع والمرأة.
وبالمقابل، تصبح المدن الفرنسية أمكنة مؤهلة لاحتضان المعرفة والحياة، لذلك لا تتردد الساردة عن التصرف مع صديقها الفرنسي» الكافر»، أمام والدتها «المسلمة المتخلفة»، دون مراعاة مشاعرها. لقد ظلت البطلة تنظر إلى أفعالها ككفاءة تدخل في باب المنطق البديل، ليس كتحد للتقاليد فحسب، بل كضرورة حياتية بديلة.
هناك انحراف لمفهومي المقدس والمدنس، وذلك راجع إلى تغيير مواقع النظر، سواء ما تعلق بالمرجعيات المؤسسة للموقف، أو بالمفاهيم المكتسبة، بصرف النظر عن قيمتها الأخلاقية ما دامت جزءا من القناعات المعيارية الجديدة. تقول الساردة: «الجزائر هي التي حرضت على العنف، على الابتزاز... هي التي قتلت هؤلاء ونفت الآخرين وأحرقت الرضع في الأفران، وتخلت عن أطفال آخرين بجروح فائقة الوصف، وهي مستمرة في تخريب نفسها بزحزحة نصف سكانها من النساء إلى درجة دنيا في نصوص قوانينها».
لقد تم استبدال يقين بنموذج يقيني. وهكذا تصبح المرأة الحقيقية هي المرأة المتمردة على الضوابط. ويمكن أن نجد ذلك في تصديرها لكتاب «رجالي»: لقد تخليت عن والدي حتى أتعلم كيف أعشق الرجال، هذه القارة العدوانية التي ظلت غامضة بالنسبة إلي...والواقع أني مدينة له في كيفية التخلص منهم، حتى عندما أكون مغرمة بهم كثيرا».
يتحين هذا الموقف في علاقتها بشخصية قومي الجنوسي عندما كانت طالبة بكلية الطب في وهران، كما تصف ذلك باعتزاز، بما في ذلك الإدمان على السكر وعدم الالتزام بالصيام. لقد كان كلّ شيء مباحا بعد تحررها من الصحراء والعائلة والدين.
يبين الشاهد مدى اهتمام الساردة بتحرير المرأة، وبأي طريقة كانت: « لن تنجو الجزائر إلا بنسائها.» هذا الروشم الذي يتكرر في فرنسا وفي العالم يهيج سلمى. قبل ذلك غنت السيدة الريميتي بسخريتها المعهودة: «الخير مرا والشر مرا «. كانت سعادة وطلاقة في الاحتفال بما كانت تخجل منه النساء آنذاك: الجنس، الحب، السكر... كم يستلزم من ريميتيات حارّات جدا لاجتثاث النساء من التشبه بالقدامى».
ربما تقاطع مفهوم البطلة للدين مع ما ذهب إليه ميشال أونفري الذي أعاب على الإسلام عدم قبوله الشذوذ الجنسي كخيار يدخل في باب التحديث. وإذا كنا لا نرغب في مناقضة الكاتبة، وفي مراجعة العناصر التي بنت عليها لتقوية موقفها، فإننا نشير إلى مرجعيتين اثنتين يمكن مساءلتهما، وكيف تم ربطهما من حيث إنهما متباعدتان: فرنسا والشيخة الريميتي.
تمثل فرنسا الحرية والعدالة، لكنّ ذلك مرتبط بحلقية حضارية كانت نتيجة لمؤثرات فكرية وأدبية وفلسفية. بيد أنّ ربط التحرر بمطربة يستدعي التساؤل عن طريقة تحرير المرأة من زاوية نظر الساردة، كما يستلزم، لفهم التحرر، التركيز على النقاط المذكورة سابقا: الجنس، الحب، السكر.
وهي نقاط تتواتر باطراد. لقد ركزت الكاتبة، إضافة إلى العنف والقهر والاختلال والتسلط، على مسائل لم تبتعد عن الموضوعات الثلاثة، إضافة إلى ضرورة شرعنة اللواط كخيار يدخل في باب الحريات الفردية التي وجب قبولها من حيث إنها كذلك، حقيقة اجتماعية قائمة.
لتحرير المرأة له منطلق أحادي. كما توضح ذلك عدة مقاطع: «كانت سلمى، الملحدة منذ المراهقة، تندهش لرجل يتوقف، وحيدا ليصلي أمام المد المديد للصحراء، هادئا وبسيطا، كله في أصالة الشعور الديني، وبالمقارنة، فإن الفريق الذي يلبي الدعوة، ...يبدي تفاخرا مقيتا... سماهم تدل على أنهم مراءون، لا يوجد شيء في لباسهم السخيف... لا يدل على الرياء».
أغلب الملفوظات لم تؤسس على الحدث كواقع أنتجه سياق ملازم، بل على الموقف الذي تختزله النعوت الجاهزة، إضافة إلى كثير من المواقف التي لا تمتلك علاقة سببية بالمتون، ومن ثم فإن كثيرا من الرؤى، بما فيها المواقف المتعلقة بالمرأة، ليست سوى تداعيات منفصلة عن النمو الحدثي، وقد ترتبط بسلمى مفيد وعلاقتها الصدامية مع المجتمع والعقيدة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 07/01/2019
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : السعيد بوطاجين
المصدر : www.eldjoumhouria.dz